قبيل أذان الفجر بساعة تخرج السيدة العجوز بلباسها الليبي التقليدي جسمها مغطى بالجرد أو الحولى الخفيف ذو اللون البني الفاتح رغم شدة برد الشتاء، ويتضح من ذلك الرداء وبهتان لونه وكم من الرقع التي به بحيث يعطيك المؤشر الواضح بما تعانيه من العوز. تخرج في آخر الليل وقبل ظهور النور لكي لا يراها أحد يعرفها وتعبر الطريق الدائري السريع الذي يفصل بين منطقة سكنها الشعبية ومنطقة الفيلات حيث تقوم بتفتيش أكياس القمامة المكدسة أمام البيوت قبل أن ينقلها رجال شركة النظافة الذين يساعدونها دون أن يدروا لأنهم يتركون هذه الأكياس و لا ينقلونها يوميًا بصفة دورية، فتقوم عجوزنا بتفتيش الأكياس لتأخذ فضلات الخبز منها وتضعها في كيس تحضره معها لكي تبيع ما تجمعه لمربي الدواجن والحيوانات أو السماسرة الذين زاد عددهم لشراء وبيع الخبز اليابس كعلف للمربين، ومع مرور الزمن واستمرار عجوزنا في رحلتها اليومية، فقد تعوّد بعض من أصحاب الدارات أن يتركوا لها الخبز منفصلا عن القمامة والبعض الآخر يضع لها بعضا من الأكل النظيف لتأخذه كما أن بعض من يصلون الفجر في الجامع الذي يتوسط المنطقة بجوار شارع دبي بمدينة بنغازي يمنحونها بعض الصدقات إذا تصادف وجودها بشارع الجامع وقت خروجهم من الصلاة. شدني كثيرا هذا المشهد الذي يدل دلالة كبيرة بأن الفقر بدأ ينخر في عمق البناء الاجتماعي لمجتمعنا المحلي، وهذا يدل على وجود خلل كبير يجب الالتفات إليه في برامج الرعاية الاجتماعية للأسر والأفراد غير القادرين على إعالة أنفسهم لأي سبب من الأسباب رغم أننا في بلد موارده جيدة ويبيع من النفط اثنان مليون برميل يوميًا وعدد سكانه لا يزيد عن 6 ملايين نسمة! صحيح أن هذا المجتمع في الخمسينات والستينات عانى من الفقر والعوز بصورة كبيرة ولكن الناس في ذلك الوقت كانوا يتراحمون، فالأغنياء- أو إن صح التعبير ميسورو الحال- كانوا ملتزمين بدفع حق الفقراء في مالهم، فيوزعون الزكاة ويساعدون جيرانهم وأقربائهم، وبالتالي فالتكافل الاجتماعي كان شعبيا مدنيا مائة في المائة. وفى نهاية السبعينات عندما شمرت الدولة عن ذراعيها وطرحت برامج الرعاية الاجتماعية تحولت جمعية البر للمساعدات تلك الجمعية الأهلية إلى برنامج حكومي سمي بالمعاش الأساسي، وكان يفترض أن تتطور برامج الرعاية بطريقة علميه مدروسة دون الإجراءات الوقتية العشوائية العاطفية التي ينتهزها أصحاب النفوس الضعيفة في إقامة الحدائق ويستفيدون من هذه البرامج في اكتناز الأموال سحتا وزقومًا لأنها أموال الفقراء والمساكين. ومن خلال عدم تطوير وتنظيم وازدواجية الإدارة التنفيذية بين أمانات وهيئات وصناديق يصرف عليها الكثير بشكل غير منظم مع عدم اختيار من يخافون الله ويؤمنون بالعمل الاجتماعي من الموظفين- صغارًا كانوا أم قيادات- أدى ذلك إلى التدني في برامج الرعاية الاجتماعية ورعاية من لا راعي له حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن من انتشار للفقر؛ لأن يد المساعدة الاجتماعية التي تقوم بها الدولة يفترض أن تطول كل الناس المحتاجين شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا لأن إمكانيات الدولة أكبر وأقدر من إمكانيات المجتمع المدني ولكن الأمر تحول إلى العكس حيث دخل الفساد الإداري والمالي حتى في هذه البرامج الإنسانية للأسف الشديد، وكان اكتشاف العديد من قوائم أسماء وهمية تقدم لهم المساعدات الاجتماعية والمعاشات الأساسية وعند اكتشاف ذلك يكون رد الفعل تعقيدا في الإجراءات والأوراق المطلوبة التي لا يتمكن الفرد الغلبان مثل عجوزنا التي سردتُ قصتها في بداية المقال لا تستطيع هي ومن على شاكلتها تجميع هذه الأوراق بينما استمر السرّاق الذين يستطيعون الحصول عليه بل وتزويرها وبالتالي الحصول على المعاشات بالمخالفة وهؤلاء هم من تُفتَّح لهم الأبواب ويسهل عليهم الصعب من الإجراءات وبالتالي ازداد الفقير المسكين فقرًا وانتشر الفقر المدقع بصورة لا يرضى بها أي أحد. والشيء المؤسف الآخر أن تنظيمات المجتمع المدني تحاول جاهدة في سبيل تجميع بعض الأموال والصدقات لتوزيعها على الفقراء المحتاجين، ونظرا لأساليب الغش والسرقة التي يسمع عنها الناس واجهت هذه المنظمات أزمة ثقة بين من لديهم استعداد لمنح المساعدات والمشرفين على هذه الجمعيات. والأمر الآخر أن الناجح منها والذي استطاع أن يجمع الصدقات ويوزعها يُفاجئ بأنه مراقب ومفتوح له ملف أمني والبعض منهم يتم استدعاؤه ويطلب منه بيان استقصائي، ولكنى أكبر فيهم أن الكثير منهم رغم كل هذه الصعاب استمر في عمله الإنساني هذا. من هذا المنطلق، فإن المواطن المسكين الفقير عندما يسمع توزيع الثروة ورعاية الدولة للمحتاجين يسخر مما يسمعه؛ لأن الأمر يقينا وصل عنده إلى صعوبة الحصول على لقمة العيش، فكيف يكون حاله في مواجهة مصاريف العلاج وتعليم أبنائه وغير ذلك من الحاجات الضرورية للفرد والأسرة. قد يدور في ذهن القارئ سؤال: ما هو الحل؟! الحقيقة إنني فاقد الأمل في أن تقوم حكومتنا الحالية بأي حل ناجح يلمسه الإنسان الفقير لأنها غير مهتمة كثيرا بالجانب الإنساني والاجتماعي وخلال الأربعين عاما لم يدخل في تشكيل الحكومة متخصصون في علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية إلا القليل، وحتى ذلك القليل الذي تم اختياره جاء من منطلق يختلف عن معايير الاختيار السليم الذي يؤدى إلى تواجد متخصصين مستعدين لتقديم الخدمة الاجتماعية لأفراد المجتمع المحتاجين إليها؛ لأن هذا النوع من العمل يحتاج بالإضافة إلى التخصص العلمي إلى الاستعداد النفسي والإيمان به وبتقديمه حبا في الوطن ووفقًا لتعاليم ديانتنا السمحاء. وبالتالي فإن الأمل معقود على العديد من الشباب والطلبة في الجامعات الذين تحركوا في معظم المدن ويقومون بالاتصال وتجميع الملابس والصدقات ويساعدهم أولياء أمورهم ليقدموا شيئًا لهذه الأسر المحتاجة، ولعل من واجبنا أن نحييهم وندعمهم ونتمنى لهم التوفيق ومزيدًا من العطاء؛ لأن هذا السلوك سينتشر بإذن الله وسيؤدى مع الزمن إلى تفعيل التكافل الاجتماعي الأهلي من جديد، وقد يحرج الحكومة وتجد نفسها أمام وضع يتطلب منها الالتفات بجديه لهذه القضية. www.dribrahimguider.com