تبدو كتب التاريخ دائماً والتاريخ العربي والإسلامي خصوصاً, كأفضل الكتب التي تستطيع منها قراءة المستقبل القادم للعالم العربي, وتشعر وأنت تقرأ وقائعه وشخوصه, أن قراءة المستقبل قد تكون أسهل وأيسر لو درسنا التاريخ دارسة جيدة, وعندما تنتخب من وقائع التاريخ ما يضيء علي الواقع الآن وكأنه الأمس نفسه, تجد التاريخ الأموي داخل التاريخ العربي والإسلامي هو لحظة فارقة فقد انتقلت بالدولة من الخطاب الديني المؤسس, إلي خطاب سلطة ظل يتراكم ويتراكم إلى أن صار لا غنى عنه لأية سلطة في أي زمان- السيف والذهب والشعرة السياسية التي لا تنقطع- ولعل حادثة ضرب الكعبة بالمنجنيق فوق رأس ابن حواري رسول الله عليه الصلاة و السلام تكفي لوصف الدم المؤمن الذي أريق لتوطيد أركان الدولة الأموية, خصوصاً من بيت آل الرسول محمد صلي الله عليه و سلم. فبعد مقتل الحسين بن علي في معركة كربلاء بأمر من يزيد بن معاوية بن أبي سفيان, ثارت مدينه رسول الله وأخرجت الوالي الأموي منها، فأرسل لها يزيد بن معاوية جيشًا بقيادة مسلم بن عقبة, وقد قام يزيد بن معاوية بتكليف مسلم بتلك المهمة بناءً على وصية أبيه معاوية بن أبي سفيان حيث أوصاه قائلا: "إن لك من أهل المدينة يوماً، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفت نصيحته" وفي الكامل في التاريخ لابن الأثير, أحداث سنة63 "موقعة الحَرَّة ذكر. أما الخليفة يزيد بن معاوية فقد أوصى قائد الجيش مسلم بن عقبة بأن يدعو أهل المدينةالمنورة ثلاثة أيام بالحسنى لمبايعته من جديد وإن رفضوا فليستبح المدينة ينهبها ثلاثة أيام,حيث قال : "ادع القوم ثلاثاً، فإن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فانهبها ثلاثاً، فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند". وقد حدث ما أوصى به يزيد, حيث قام الجيش الأموي وبعد رفض سكان المدينةالمنورة مبايعة يزيد بن معاوية من جديد باستباحة المدينة ونهبها وقتل الآلاف من السكان وهتك أعراض النساء حيث إن ألف عذراء تقريبًا قد تعرضت للاغتصاب, ناهيك عن قتل الكثير من الصحابة, و أجبر الناس على مبايعة يزيد على أنهم عبيد له. و جاء في البداية والنهاية لابن كثير أحداث سنه 63: ثم أباح مسلم بن عقبة الذي يقول فيه السلف: مسرف بن عقبة- قبحه الله من شيخ سوء ما أجهله- المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد، لا جزاه الله خيراً، وقتل خيراً خلقاً من أشرافها وقرائها، وانتهب أموالاً كثيرة منها، ووقع شرٌّ عظيم وفساد عريض على ما ذكره غير واحد. قال المدائني: وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من الناس، ويأخذون الأموال. قال المدائني: عن شيخ من أهل المدينة. قال: سألت الزهري: كم كان القتلى يوم الحرة؟ قال: سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي، وممن لا أعرف من حر وعبد وغيرهم عشرة آلاف. قال: وكانت الوقعة لثلاث بَقِين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام. هذا بعض ما ذكرت الكتب التاريخية عن موقعة الحَرَّة التي أراها بمثابة إجبار علي فرض التوريث في منصب الخلافة والذي رفضه أهل المدينة, وأيا كان الفرق في التشبيه بين مدينة الرسول وأهلها من الصحابة والتابعين, وبين العواصم العربية في هذا الزمان, فلا يمنع ذلك من أن نستدعي الماضي لكي نستخلص العبر والدروس ونتساءل: هل من الممكن الآن أن يقوم حاكم عربي بمثل هذه الفاجعة لو تجرأت مدينة أو بعض من أهل مدينة عربية أن يرفضوا مبدأ التوريث الذي زرعه بني أمية في المنطقة العربية, وظل هو المبدأ الثابت في دولة الإسلام سواء في بني أمية أو في بني العباس أو في دولة بني عثمان, ثم تتكرر نفس أحداث التاريخ فبعد خروج الاحتلال وبداية الدولة الوطنية يبدأ نفس المشهد التوريثي مرة أخرى مع انقضاء جيل أو أكثر من التاريخ الحديث في الدولة الوطنية, الأمر بدأ بسوريا ولن يتوقف عند مصر ومشروع التوريث الذي فرشت أرضيته منذ سنوات, فقد انتقل إلى ليبيا وإلى تونس في زوج البنت الكبرى لزين العابدين, وفي الجزائر إلى أخي بوتفيلقة واليمن مازال الحديث يدور في الكواليس السياسية. أما باقي الدول العربية والذي فرضت فيه الملكية, فلست أعرف ما الذي يجعل قبيلة فلان أو عشيرة فلان هي أولي وأجدر من غيرها في حكم البلاد, هل يملكون صكاً من السماء باسم العائلة للحكم ولا يجوز الخروج عن هذه الشجرة العائلية. من الممكن أن يكون المؤسس رجلاُ عظيماً وشخصية متفردة في التاريخ, ولكن ما هو الضامن أن العبقرية والتفرد سيظل متوارثا في هذا البيت, إنها ليست صفات جينية لكي تتوارث إنها صفات شخصية قد تأتي في واحد من أهل البيت وتترك الآخر وهو من نفس العائلة. والسؤال يطرح نفسه ثانياً: ماذا لو مات ملك أو أمير عربي, ورفض أهل عشيرة أو مدينة بايعته؟ هل ستحدث موقعة الحَرَّة ثانياً ونجد الشرطة والجيش في الدولة في حالة من القتل والنهب وهتك الأعراض لمدينة ما أو مجموعة من المعارضين رفضوا أن ينضووا تحت لواء الحاكم الذي ورث الحكم عن أبيه وجده, كأنه متاع