الفتوى عبارة عن مرسوم ديني يقوم بإصداره بعض علماء الشريعة الإسلامية الذين يفترض فيهم التحلي بمواصفات ومعايير محددة، وذلك من أجل بيان شرع الله وتوضيح حلاله وحرامه للناس في شتى مناحي الحياة وعند النوازل بصفة خاصة. وفي تصوري أن إصدار الفتوى يعتبر أمرًا عظيمًا من ناحية المسئولية وبعض من الكتاب يرون فيمن يصدر الفتوى أنه شخص نصب نفسه للتوقيع كوكيل للذات الإلهية في الأمور الجدلية مثل الأمر أو النهي أو إطلاق مسميات مثل الحلال والحرام والمستحب والمكروه وغيرها. ويرجع هؤلاء الكتاب المنتقدين لهذا التوجه أن إصدار الفتوى يتم عادة نتيجة غياب جواب واضح وصريح يتفق عليه الغالبية في أمر من أمور الفقه الإسلامي يتعلق بموضوع شائك ذات أبعاد سياسية أو اجتماعية أو اقتصاديه أو دينية، ويطلق تسمية المفتي على الشخص الذي يقوم بإصدار الفتوى. كان المرجع الأساسي في الدولة الإسلامية الأولى بالمدينةالمنورة وفي ارض الحجاز هو رسول الله صلي الله عليه وسلم في توجيه المسلمين في كافة نواحي حياتهم الاجتماعية والاقتصادية وتنظيم العالقات بينهم وبين بعضهم . ولعله من الأهمية بمكان أن نعرج على الفتوى في القران الكريم حيث إن علماء اللغة العربية استنادًا للنص القرآني في سورة يوسف عليه السلام: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴿43﴾ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ﴿44﴾}، حيث اعتبروا أن معني أفتوني في هذه الآية هو: "بينوا لي علمًا أستفيد منه" . ويرجع القرطبي للتفسير والعلم بالأمور إلى الله سبحانه وتعالي فهو الذي يبين الأمور بأوامر منه، حسب تفسيره للآية (176) من سورة النساء { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ وَهُوَيَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ }، ولذلك فإن مسئولية الفتوى مسئوليه ضخمة ومهمة. وقد قام بهذا الدور بعد النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدون أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وبدأت تظهر الحاجة للمفتي بحكم التطور الزمني وظهور مظاهر حياتية مختلفة لم تكن معروفة أو لم تكن متداولة أو ممارسة في المجتمع الإسلامي الأول، ما أدى إلى ظهور أشكال مختلفة من الأفراد يتولون الإفتاء مثل أمير المؤمنين الذي يستعين ببعض الفقهاء أو قاضي المدينة وغير ذلك إلي أن تم تنظيم ذلك في حياتنا المعاصرة بوجود وظيفة رسمية خاصة ب"المفتي". وهناك العديد من الدول الإسلامية طورت الأمر بعد دراسات موضوعية استنبطت من خلالها وقائع كثيرة لعل أهمها أن الأمور في موضوع الفتوى الدينية اختلف فيها منذ زمن بعيد العلماء، وبالتالي فإن العقل البشري الفردي لا يمكن له أن يكون ملمًّا بكل النواحي، وحتمًا يتعرض للوقوع في الخطأ، ولذلك برزت فكرة التوجه نحو مجلس للإفتاء. ومن هنا كان الاتجاه نحو تكوين مجالس للإفتاء يتم من خلالها اختيار مجموعة من علماء الدين بدقة متناهية من مختلف التخصصات لكي يستطيعوا أن يشاركوا برأي قريب إلي حد كبير من رؤية الإسلام الحقيقة المبنية علي أسانيد ونصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة . وقد وضعت مجموعة من الشروط يجب توفرها في المفتي: أولاً: أن يكون مجتهدًا بالمفهوم الإسلامي، وهو العالم الدين القادر علي التحليل المنطقي العميق لنصوص القرآن والسنة النبوية بشكل يؤهله لاستنباط الأحكام من الأمور المعقدة. ثانيًا: أن يفهم معاني وتفاسير وأسباب نزول ما لا يقل عن خمسمائة آية قرآنية متعلقة بمسائل قانونية. ثالثًا: أن يكون على دراية عالية بعلم الحديث. رابعًا: أن يكون على دراية عالية بعلم اللغة. خامسًا: أن يكون على دراية عالية بالناسخ والمنسوخ من القرآن. سادسًا أن يكون لديه خبرة جيدة وممارسة للفقه الإسلامي. سابعًا: أن يكون ذا معرفة واسعة واطلاع على جميع الفتاوى السابقة، بغض النظر عن الجهة المصدرة للفتوى. ولعل اشتراط تلك الشروط نبع من أهمية وخطورة الفتوى علي المجتمع إذا لم تكن صادرة ممن تنطبق عليهم هذه المواصفات، والتي قد تسبب هذه الفتاوى غير المدروسة في انعكاساتها سلبية وكوارث كبيرة علي الناس. ولعل أبرز وأهم فتوى سببت وما زالت تسبب مشاكل للمجتمع الإسلامي هي الفتوى التي أطلقتها بعض المنظمات الإسلامية في شهر فبراير من عام 1998 والذين كان من بينهم تنظيم القاعدة بجواز الجهاد والحرب ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية، ووقعها كل من الشيخ الراحل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري والرفاعي وأحمد طه ومير حمزة وفضل الرحمن، والتي تسبب في وقوع أحداث 11 سبتمبر، وأدت بدورها إلى إعلان الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ما أسماه ب"الحرب علي الإرهاب"، ونتج عنها غزو دولة أفغانستان ومن بعدها احتلال العراق، وهو ما نعاني منه حتى الآن، وانعكس بالتالي على ليبيا والجزائر وأثر كذلك على ما يدور في دولة مالي حاليًّا. ويقول الدكتور رياض الصيداوي: إن الفتوى السياسية بدأت تنتشر مع حرب الخليج، وانتقلت الظاهرة من الخليج إلي مصر ومنطقة المغرب العربي، مشيرًا إلى أن الفراغ الديمقراطي تم ملؤه بشيخ يفتي، ضاربًا المثل بالسعودية التي اتخذت من هيئة كبار العلماء مؤسسة تعوض عن غياب البرلمان. ويربط الصيداوي بين المصالح الاقتصادية والسياسية وبين الخطاب الديني، ضاربًا المثل بدولة قطر التي دخلت علي خط التنافس السياسي والديني مع السعودية، ووقعت حرب فتاوى واضحة المعالم بين جهازي الفتوى القطري وجهاز الفتوى السعودي، فالسعودية أنشأت "رابطة العلماء المسلمين"، وقطر أنشأت جهازًا اسمه "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين". وأود هنا أن أتطرق إلي قضية جد مهمة تعودنا عليها- نحن في المجتمع الليبي وفي العديد من المجتمعات العربية والإسلامية- أنه عندما نسأل أحد علماء الدين نقول له: "سيدنا الشيخ أو يا مولانا، ما رأيك في الموضوع الفلاني، ونروي له القصة أو الحادثة أو الموضوع وننتظر رأيه! وهنا نقع في خطاء خطير ومهم جدًّا ينعكس سلبًا علي الشيخ الذي سيفتي نفسه، وعلينا أيضًا، حيث يتولد عن ذلك- في بعض الأحيان- شعوره بثقة زائدة عن حدودها، ما يوقعه في دائرة الثقة الزائدة عن المعقول، وهنا تصدر فتاوى قد تكون في بعض الأحيان بعيدة كل البعد عن الرأي الصحيح، والتي في بعض الأحيان قد نكون قد ساهمنا في إنتاج بدعة جديدة يأخذ بها فريق من المسلمين، وتصبح مع مرور الأيام سلوكًا وتوجهًا يأخذ به البعض، ومن يخالفه يقع في المحظور، إن لم يوصف بالعاصي أو الكافر، والعياذ بالله . ما يجب علينا أن نطلبه من العالم أو المفتي عندما نرغب في فتوى أو سماع رأيه في معضلة حياتية وقعنا فيها، أن نقول له: "ما أمر الله في موضوع كذا؟" والعديد من العلماء الأوائل يطالبون بأن نسال عن أمر الله وأمر رسوله في أمور حياتنا، ولكن جمهور العلماء يرون الاكتفاء بالسؤال عن أمر الله؛ لأن أمر الرسول لا يختلف أبدًا عن أمر الله، ولكنه يفسر ويوضح ما غمض منه، ولكنه لا يخرج عنه بأي شكل من الأشكال. قولنا بالسؤال عن أمر الله في الموضوع يقيد من نسأله ويضعه أمام مسئولية الإجابة وفقًا لأمر الله في القرآن والسنة المؤكدة، ويفرض عليه إذا لم يجد نصًّا واضحًا صريحًا في القرآن والسنة أن يقول ذلك، ويتبعه بأن علماء المسلمين أو العالم الفلاني من أصحاب المذاهب درس هذا الموضوع، ويرى فيه كذا وكذا. وفي حالة تعدد الآراء فسيكون المفتي ملزمًا بتبيانها، وقد يرجح أحدها حسب رأيه أو رأي المذهب المتبع في البلد. وهنا بيت القصيد الذي أرمي إليه أنا شخصيا، وهو أن الأصل في الإفتاء والرأي الذي لا يجادل ولا يناقش هو الأمر الواضح من الله في القرآن والسنة، أما ماعدا ذلك، فهو من نتاج العقل البشري، ويكون خاضعًا لمعايير القبول والأخذ به أو رفضه والأخذ برأي آخر له أسانيده القوية أيضًا وفقًا لمعايير القياس والاستنباط والاجتهاد المعتبر. وهذا يعني أننا ملزمون- بدون نقاش أو تفكير- بتنفيذ أي رأي أو فتوى منطلقها أمر الله تعالي في الكتاب والسنة، وذلك لا يعني عدم احترام الفتاوى الأخرى الناتجة عن القياس والاجتهاد؛ ولكنها في إلزام المجتمع والمسلمين بها لا ترقى إلي مستوي الأمر الإلزامي الإلهي، بل تبقي خاضعة للرأي العقلي البشري في مدى قبول العمل بها من عدمه. هذه الرؤية وهذا التوجه يجب أن يضعه المفتي في حسبانه عندما يقوم بالفتوى، وهو ما يجب أن يؤكد عليه بوضوح في فتواه . والشيء الآخر الذي يجب الإشارة إليه هو تدخل المفتي أو من يقوم بدوره في أمور السياسة التي لا تمثل ظاهرة داخل المجتمع، يعني التدخل في تقديم فتاوى لأمور تتعلق بأفراد وحالات فردية في الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية لا تمثل ظاهرة تحتاج إلى إفتاء ورأي واضح يساعد المجتمع وينبهه للحد منها أو القضاء عليها. وهنا أضرب مثلاً برسالة المفتي حول وفد وزارة الثقافة لمعرض الكتاب الدولي بالقاهرة، والتي تعبر عن رأي شخصي؛ ولكنها عندما تصدر من المفتي، فإنها تمثل رأيا من دار الإفتاء، باعتبار المفتي يرأسها، وخاصة عندما يقرؤها بعض الأئمة في المساجد وعلى المنابر باعتبارها فتوى، وهي غير مبنية على أسس منطقية ولا تمت بصلة لأوامر الله الناهية عن الفعل ولا تعتبرًا اجتهادًا ولا قياسًا؛ لأن الفرضية التي بنى عليها المفتي رسالته نقلت له خطأ، فنتج عنها حكمًا يشوبه الكثير من العيوب والعوار، وهذا شيء بديهي يمكن أن يقع فيه المفتي إذا قدمت له بيانات أو فتاوى سابقة غير حقيقية، فيستند إليها وينتج عن ذلك صدور رأي خاطئ بطبيعة الحال. ولعل من المفيد أن نفكر منذ الآن في إصدار تشريع ينظم دار الإفتاء ويحدد مجلسًا للإفتاء، على أن يتم اختيار أعضائه وفقًا للمعايير والمواصفات، ولا تصدر أية فتوى إلا بعد عرضها على هذا المجلس. هدانا الله جميعا لما فيه خير الإسلام والمسلمين وبلدنا الحبيبة ليبيا. [email protected] -- Dr IBRAHIM GUIDER