بين الحين والآخر أفضل أن أنجز مشاويرى الصباحية سيرا على الأقدام وفى تلك الأوقات التى تختنق فيها الشوارع وتتكدس السيارات بلا حراك ولكنها ترسل مزيدا من السموم الملوثة فى تلك اللحظة نكتشف أن الخطوة كلها بركة، وأن هذه البركة لا تحل إلا إذا كنت تسير على الرصيف، رغم أنه عمليا لم يعد هناك رصيف.. كنت قد قرأت دراسة تؤكد أن مخ الإنسان يحتاج بين الحين والآخر إلى تدريبات لياقة للحفاظ عليه، وهذا لا يتوافر إلا إذا غيرت طريقة السير المعتادة، وهو ما أفعله كثيرا، وإن كنت لا أدرى إذا كانت قد أفادت مخى أم لا، لأن المؤشرات المبدئية لا تشير إلى حدوث تغيير.. ورغم ذلك ما زلت أطبق القاعدة، وأبحث عن شوارع جانبية أخرى للوصول إلى البيت أو المكان الذى أقصده، وهذا ما فعلته وأنا أسير من منزلى فى حى المنيل، اخترقت شوارع جاردن سيتى وأنا فى طريقى إلى ميدان التحرير، وفجأة استوقفتنى رائحة طعمية تنبعث من محل، ووجهتى أنفى إلى مصدر الرائحة، ثم فجأة تذكرت حكاية عمرها 30 عاما، إنه نفس المحل الذى كانت تقطن فوقه مباشرة الفنانة فايزة أحمد وزوجها الموسيقار محمد سلطان.. كانت فايزة بسبب تلك الرائحة النفاذة قد استصدرت أمرا من محافظ القاهرة بإغلاق المحل أو على أقل تقدير منعه من قلى الطعمية وأخواتها، أقصد طعمية بالبيض، أو بالبسطرمة والباذنجان، والبطاطس.. وقتها اعتبرتها استغلالا للنفوذ وقطع أرزاق، كيف لفنانة كبيرة أن تتصل بمسؤول كبير فيجاملها ويغلق محل أكل عيش؟ وأجريت تحقيقا سألت فيه موسيقيين كبارا بحجم محمود الشريف، ومنير مراد، وأحمد صدقى، قالوا جميعا إن الشعب المصرى فى حاجة إلى قرص الطعمية أكثر من حاجته إلى صوت فايزة أحمد، ثم أجريت حوارا مع دكتور أنف وأذن وحنجرة عن التأثير السلبى لرائحة الزيت على الصوت قال لى على العكس تماما تلك الرائحة مفيدة جدا للمطرب فهى تجلو الأحبال الصوتية!! تراجع المحافظ عن قراره وغضبت فايزة وتوترت العلاقة، ثم صرنا فى سنواتها الأخيرة صديقين حتى رحيلها عام 83.. سألت نفسى هل حقا الشعب المصرى فى حاجة إلى قرص الطعمية أكثر من صوت فايزة؟ نحن نحتاج إلى قرص الطعمية بقدر احتياجنا إلى صوت فايزة أحمد، فهى بالنسبة إلى الأفضل.. مكانتها فى قلبى هى وفيروز مباشرة بعد أم كلثوم.. ولماذا وضعت فى كفتى الميزان صوت فايزة مقابل قرص الطعمية؟.. إنها بالتأكيد قسمة غير عادلة.. نظرت إلى شرفة فايزة أحمد، وشعرت أنها تبتسم لى وتسامحنى على تلك المداعبة الثقيلة وتساءلت: لماذا قادتنى قدمى بالصدفة إلى بيتها؟.. هل ما زلت أشعر بالذنب لأننى يوما أغضبتها؟.. أم ربما لأننى أرى أن محطات الأغانى الإذاعية والقنوات الفضائية الغنائية هى التى تذنب فى حق فايزة ونادرا ما تقدم لنا عبر موجاتها أغانيها وهى لديها هذا الكنز من الروائع مثل «يا أمه القمر ع الباب»، و«حيران»، و«ست الحبايب»، و«حمال الأسية»، و«أحبه كثيرا» وغيرها كثير.. كثير، ثم تذكرت أن اليوم كان يوافق بالصدفة مرور 28 عاما على رحيل فايزة أحمد وكأن قدمى قادتنى إليها فى ذكراها!! فايزة أحمد وصفوها بصوت الكروان، فمنحوا الكروان تكريما خاصا.. للسفر سبع فوائد وللمشى فوائد أكثر كثيرا.. كثيرا.. يكفى أننى عشت هذه اللحظات مع فايزة أحمد!! المصدر : جريده التحرير