قوات الدفاع الشعبى والعسكرى تنظم ندوات لنشر الوعى بين طلبة المدارس والجامعات    سعر الريال السعودي بالبنوك اليوم الخميس 9-5-2024    وزير الاتصالات يفتتح المقر الجديد لشركة «أرتشر» الأمريكية في مصر    تنبيه مهم من «الإسكان الاجتماعي» بشأن تأخر دفع الأقساط للوحدات السكنية    وزير النقل يعلن عن تجربة التاكسي الطائر في موسم حج هذا العام    رئيس هيئة المعارض يفتتح معرض الأثاث والديكور بمركز القاهرة للمؤتمرات    مصرع 4 من حزب الله فى غارة إسرائيلية استهدفت سيارتهم جنوب لبنان (تفاصيل)    رئيس الوزراء: نستهدف زيادة حجم الاستثمارات المتبادلة مع الأردن    ابن ترامب يدخل عالم السياسية رغم صغر سنه.. عُين مندوبا للحزب الجمهوري الأمريكي    رئيس فرنسا عن مشاركة مبابي في الأولمبياد: أمارس الضغط على ناديه المستقبلي    الخطيب يحفز لاعبي الأهلي قبل السفر إلى تونس لخوض النهائي الأفريقي    نشرة «المصرى اليوم» من الإسكندرية: تأجيل محاكمة المتهمين بأحداث سيدي براني وسموحة يصطدم ب«زد»    «التعليم»: بدء تسليم أرقام جلوس الدبلومات الفنية 2024 في المدارس    رشا سامي العدل تعلق مجددا على عودة العوضي وياسمين عبدالعزيز : هو مش سر أصلا (ما القصة؟)    سلوفينيا تعتزم الاعتراف بالدولة الفلسطينية في موعد أقصاه 13 يونيو المقبل    تنفيذ 4 قوافل طبية للقرى الأكثر احتياجا في الدقهلية    عضو تضامن النواب تثمن دور القومي للمرأة في استقلالية إدارة المنح والمساعدات    بعد ظهورها مع إسعاد يونس.. ياسمين عبد العزيز تعلق على تصدرها للتريند في 6 دول عربية    فضل ذو القعدة وسبب تسميته وهل هو من الأشهر الحرم؟ معلومات تهمك    نصائح مهمة لتقليل توتر الأبناء في فترة الامتحانات    استفز لاعبي الأهلي | نص مرافعة دفاع حسين الشحات في قضية الشيبي    ثورة الفلاحين .. عرض مسرحي لفرقة قصر ثقافة المحلة    أبونسب السبب.. أب يفارق الحياة حزنا على ابنه في المنوفية    حزب حماة وطن يكرم الآلاف من حفظة القرآن الكريم في كفر الشيخ    بنك ناصر يرعى المؤتمر العلمي الدولي ال29 لكلية الإعلام بجامعة القاهرة    وزير الصحة: دور القطاع الخاص مهم للمساهمة في تقديم الخدمات الطبية    حكم هدي التمتع إذا خرج الحاج من مكة بعد انتهاء مناسك العمرة    محافظ الغربية يوجه بتسريع وتيرة العمل في المشروعات الجارية ومراعاة معايير الجودة    قنديل يناقش مجالات التعاون مع جامعة 15 مايو وتطوير مستشفي بدر    وفد صحة الشيوخ يتفقد عددا من المستشفيات ووحدات الإسعاف وطب الأسرة بالأقصر    تأجيل محاكمة المتهمين في قضية فساد التموين ل 8 يوليو    هل يقترب مدافع الوداد السابق من الانتقال للأهلي؟    الشعب الجمهوري يعقد اجتماعًا تنظيميًا لأمناء المرأة على مستوى محافظات الجمهورية    "العمل": تحرير عقود توظيف لذوي الهمم بأحد أكبر مستشفيات الإسكندرية - صور    وزيرة التضامن تشهد انطلاق الدورة الثانية في الجوانب القانونية لأعمال الضبطية القضائية    حسين فهمي ضيف شرف اليوبيل الذهبي لمهرجان جمعية الفيلم    البيتي بيتي 2 .. طرد كريم محمود عبد العزيز وزوجته من الفيلا    القبض على المتهمين بغسيل أموال ب 20 مليون جنيه    21 مليون جنيه.. حصيلة قضايا الإتجار بالعملة خلال 24 ساعة    لليوم الرابع على التوالي.. إغلاق معبر كرم أبو سالم أمام المساعدات لغزة    ما حكم قطع صلة الرحم بسبب الأذى؟.. «الإفتاء» تُجيب    هل تصح الصلاة على النبي أثناء أداء الصلاة؟.. الإفتاء توضح    السيسي يستقبل رئيس وزراء الأردن    مستشفى العباسية.. قرار عاجل بشأن المتهم بإنهاء حياة جانيت مدينة نصر    إيرادات فيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة" بعد 4 أسابيع من طرحه بالسينمات    اكتشفوه في الصرف الصحي.. FLiRT متحور جديد من كورونا يثير مخاوف العالم| هذه أعراضه    دفاع حسين الشحات يطالب بوقف دعوى اتهامه بالتعدي على الشيبي    مكاسب البورصة تتجاوز 12 مليار جنيه في منتصف تعاملات اليوم    مفاجآت سارة ل5 أبراج خلال شهر مايو.. فرص لتحقيق مكاسب مالية    عاجل| مصدر أمنى رفيع المستوى يكشف تطورات جديدة في مفاوضات غزة    جهاد جريشة يطمئن الزمالك بشأن حكام نهائي الكونفدرالية أمام نهضة بركان    مصدر عسكري: يجب على إسرائيل أن تعيد النظر في خططها العسكرية برفح بعد تصريحات بايدن    معدل التضخم السنوي لإجمالي الجمهورية يسجل 31.8% في أبريل الماضي    اليوم.. وزير الشباب والرياضة يحل ضيفًا على «بوابة أخبار اليوم»    موعد مباراة الإسماعيلي والداخلية اليوم الخميس بالدوري    تامر حسني يقدم العزاء ل كريم عبدالعزيز في وفاة والدته    طقس اليوم: شديد الحرارة على القاهرة الكبرى نهارا مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالعاصمة 36    «أسترازينيكا» تبدأ سحب لقاح كورونا عالميًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف زيدان : ثورتنا المصرية تفقد البوصلة.. لماذا؟
نشر في 25 يناير يوم 27 - 07 - 2011

ليس من المعقول طبعاً، أن نستكمل اليوم كلامنا عن «الجماعات الشيعية»، بينما الجماعة المصرية وجميع أهلنا فى هذا الوطن، تطحن قلوبهم مشاهد العراك (الثورى) فى الشوارع، وتطيش عقولهم مدعكة الآراء (الثورية) فى المكلمات المنصوبة على مدار الساعة فى قنوات التليفزيون.. ومع أن الكلام عن «الشيعة» يرتبط بالحالة الثورية المحيطة بمصر، ويتصل بالمعرفة التى هى شرط ضرورى لنجاح الثورة، إلا أن الحالة الحالية ببلادنا تدعونا لتأجيل ذلك إلى حين، وتضطرنا إلى طرح السؤال الذى عبَّر عنه عنوان هذه المقالة.
لا شك فى أن مصر الثائرة منذ ستة أشهر، ضاعت من يدها البوصلة وصارت تتخبط. ليس فقط على مستوى أحداث الأيام السابقة فى الإسكندرية ثم العباسية، وإنما أيضاً على مستوى الرؤية العامة التى تداخلت فيها الآراء واختلطت الأذهان (اختلاط الذهن مرض خطير، طالما تحدَّث عنه أطباؤنا القدامى) .. فدعونا نستكشف برفق، أسباب فقدان البوصلة الثورية، تحاشياً لمصير التائهين المرهقين الضالين المغضوب عليهم. ومن تلك الأسباب فيما نرى، ما يتعلق بجمهور المصريين وبجموع الثائرين وبالمجلس العسكرى وبالطموحات وبالمطامع وبالتآمر.. وعلى هذا الترتيب نبتدئ فى استكشاف الأسباب التى أدت إلى فقدان البوصلة، آملين فى العثور عليها قبل فوات الأوان.
? ? ?
فيما يتعلق بجمهور المصريين، أىْ جميع أطياف الشعب المصرى. فلا بد من الإقرار بأن (الثورة) لم تكن مطلباً عاماً لجميع المصريين، وإن كانت مطلباً لكثيرين من المصريين الذين أعتبر نفسى واحداً منهم. ولكن هناك ملايين من الناس فى مصر، كانوا يستظلُّون بالنظام السابق (الساقط من قبل سقوطه) ويرضون عنه بدرجات متفاوتة، تتوزَّع بين عدة مستويات وشرائح، مثل: الذين كانوا يسمونهم الأغلبية الصامتة، أى الراضين بالقليل مهما كان قليلاً، والذين صاروا يُسَمَّون بعد الثورة بفلول النظام، والذين لم يشبعوا من النهب، ولن يشبعوا أبداً لأنهم لا يعرفون حَدَّ الشبع (وهذا مرضٌ آخر، يسمِّيه أطباؤنا القدامى: الجوع الكلبى) وبين هذه الطبقات، طبقاتٌ أخرى كانت تتقبَّل الحياة فى ظل الواقع المصرى الذى ظل يتدهور تدريجياً خلال السنوات الثلاثين الماضية، أو بالأحرى الستين.
وقد بوغت هؤلاء حين اندلعت الثورة المصرية، ومن ثم توزَّعت مواقفهم بالتدرج ما بين التخوف والترقُّب والرفض.. فلما استطال المدى الزمنى بلا أملٍ يلوح فى الأفق، صارت مواقفهم مرتبةً بعكس التدرُّج الأول، فصارت: الرفض والترقب والتخوف. وهى المواقف التى استعلنت مؤخراً فى ميدان روكسى، ومن قبله ميدان مصطفى محمود، ومن قبلهما وبعدهما فى عديد من مواقع الإنترنت وصفحات الفيس بوك.
إذن، مع مضىِّ الوقت من دون ثمارٍ ملموسة (تشفع لها) فإن الثورة المصرية سوف تخسر رويداً الرصيد العام (الاستراتيجى) المتمثل فى التأييد العام من كل المصريين، بمن فيهم أولئك الذين كانوا قبل شهور ينحازون جهاراً لسلطان مبارك، وصاروا اليوم يتحدثون باسم الثورة! حتى أولئك «المثقفون» أو بالأحرى الذين انتسبوا لدائرة الثقافة المصرية بسبب طول جلوسهم على المقاهى والمنتديات ودخولهم فى الشِّلَل وهم فى حالة شَلَل (لن أذكر أسماءهم فهم معروفون) هؤلاء، نسوا أنهم كانوا يسارعون قبل الثورة بأسابيع إلى لقاء مبارك والتقاط الصور بجانبه، وهو ما كان يسمى زوراً وبهتاناً لقاء الرئيس مع المثقفين (ليس فيهم شخصٌ يقل عمره عن الستين عاماً، وليس فيهم كاتبٌ يحظى بقبولٍ عند القراء) وقد صار هؤلاء مؤخراً، ويا للعجب، ناطقين بلسان الثورة.. وطرحوا عنهم أردية الخجل.
فإذا كان ذلك هو حال النخبة، أو بالأحرى حال (نُخبة الخيبة) فما بال حال الفقراء من الناس، وساكنى العشوائيات، وملايين المهمَّشين من المصريين، والمشرَّدين، وراغبى الزواج الذين لن يصبروا خمس سنوات إلى حين انتهاء الحكومة من بناء المليون شقة الموعودة.. خمس سنوات، كان «جحا» يقول بعدما تعهَّد للملك بأن يعلِّم حماره النطق بعد خمس سنوات: سيكون الحمار قد مات أو مات الملك أو مات جحا.. وفى مثل شعبى آخر، يقول المصريون: موت يا حمار حتى يأتيك العليق.
? ? ?
وأما عن ضياع البوصلة من يد الثورة، بسبب جموع الثائرين، فلا بد لنا أولاً من الانتباه إلى أن الثورة المصرية تداخلت فى بحرها ثلاث موجات على الأقل، خلال الشهور العشرة الماضية. فمن قبل الثورة وحتى لحظة اندلاعها، كانت الموجة الأولى التى مهَّدت للثورة بالمعارضة الصريحة للنظام، وبإشاعة الأمل فى النفوس، وبالمواقف الشجاعة والمتهورة أحياناً (لكنها نبيلةٌ فى كل الأحيان).. ومن تلك الموجة أشخاص مرموقون توفَّاهم الله، مثل د. عبد الوهاب المسيرى الذى همس لى قبل وفاته بأسابيع بأنه يريد أن يموت معارضاً للنظام الفاسد، ولذلك تقبل رئاسة حركة كفاية. فهمستُ إليه بأن عليه تغيير اسم الحركة من (كفاية) التى تُقال فى فصيح اللغة للأمر الجيد، إلى (بس) التى تُستعمل فى اللغة الفصيحة للشىء المذموم .. ابتسم الدكتور المسيرى، وكانت ابتسامته آخر ما رأيته منه، لأنه مات بعدها بأسابيع.
ومن أهل الموجة الأولى الممهِّدة للثورة، كثيرون ممن يزالون أحياء يُرزقون تحت سماء مصر.. منهم مثلاً «محمد عبدالقدوس» الذى التقيت به مرةً واحدة صدفةً، قبل الثورة بشهور، حين جلسنا متجاورين فى ندوةٍ، فسألته وقد جرى بيننا نهر الكلام، عن ختام الحالة التى وصلت إليها مصر، فقال بحماس ما نصُّه: لا بد أن يحدث شىء كبير العام القادم، فمصر تمرُّ دورياً بثوراتٍ وفوراتٍ لا بد أن تحدث! وذلك وفقاً لحسبةٍ عجيبةٍ فى ذهنه، راح يشرحها لى وأنا غير مصدِّق بها. وحين رأيته يوم الجمعة ?? يناير على قنوات التليفزيون، محمولاً من أطرافه الأربعة بيدِ قوات الأمن المتصدية للمظاهرات، قلت ها هو حُلمه قد تحقق وصحَّت حسبته العجيبة.. وأشفقت عليه من الأيدى الباطشة.

غير أن أفراد (أبطال) هذه الموجة الممهِّدة للثورة، أعنى الأحياء منهم، سرعان ما انسحبوا من المشهد العام بعد الثورة بأسابيع.. ربما لأنهم أكثر نبلاً من الانهماك فى التقاط الثمرات، أو لأنهم اعتقدوا أنهم قدَّموا لهذا الوطن ما كانوا به يحلمون، أو لأنهم أرادوا إفساح المجال للموجة الثورية الجديدة (الثانية) التى دخلت إلى الميدان، يحدوها الحماس وتنقصها الخبرة.
التقت الموجتان الأولى والثانية لبضعة أسابيع، ثم استعلنت من الميادين رموز ثورية لم يكن الناس من قبلُ يسمعون عنهم أو يعرفونهم. ولكن لا بأس، فهم أيضاً «الثوار» ولا بد للثورة أن تجدِّد دماءها.. غير أن الدماء الجديدة اندسَّ فيها جماعة (المتحولون) الذين نظر الناسُ إليهم أول الأمر بريبةٍ وتشكك، ثم انصرفت عنهم الأذهان مع زحام الأحداث ودخول الموجة الثورية الثالثة إلى المشهد العام.. وهى الموجة الموجودة اليوم، ولها فى الإعلام السيادة، بعد ستة أشهر فقط من اندلاع الثورة المصرية.
ومعظم أفراد الموجة الثالثة سواء المشهورين منهم أو المغمورين، هم من الذين لم نعرف عنهم من قبلُ النزوعَ الثورى، بل كان معظمهم حتى العام الماضى لا ينشغل أصلاً بالواقع السياسى العام، ولا يعنى عنده (الوعى الاستراتيجى) أى معنى.. ومن الطبيعى فى مثل هذه الحالة، أن يتم قبول هؤلاء للصيغ الثورية الجاهزة والشعارات سابقة التجهيز من مثل: الإسلام هو الحل، الديمقراطية هى الحل (من دون بيان للمشكلة التى سيكون الإسلام أو الديمقراطية حلاً لها).. ومن مثل: يسقط فلول النظام، يسقط حكم العسكر (من دون تحديد دقيق لمن هم الفُلول، ولماهية العسكر) .. ومن مثل: الثورة انحرفت عن المسار، ولا بد من إتمام الثورة إلى النهاية (من دون تبيان لما هو مسار الثورة أصلاً، وكيف ستكون الثورة فى المطلق حتى النهاية).
غير أن أشخاصاً بأعينهم مثل جورج إسحاق والبرادعى وأيمن نور (وغيرهم) ارتبطت أسماؤهم بالموجات الثورية السابقة، كلها، وأظنها ستظل مرتبطة بالموجات الآتية أيضاً.. وهؤلاء فيهم المخلصون والمراوغون والمنتفعون، لكنهم جميعاً مهدَّدون بالانطفاء من كثرة التعرض وكثرة التعريض بهم فى غمرة الاضطراب العام الملازم لأى ثورة.
? ? ?
وأما المجلس العسكرى فهو الممثل للجيش الذى دعم الثورة، من دون أن يعلن تأييده الصريح لها. لكنه أعرب عن احترامه للثورة وإرادة الجماهير، ولم يفصح عن السبب، مع أن طبيعة الفعل (الثورى) تناقض على خط مستقيم طبيعة (النظام) العسكرى الصارم. وحسبما أرى، فقد حققت الثورة المصرية للجيش المصرى الهدف الأهم، ومن ثم استحقت بدايات الثورة حماية الجيش. كيف؟
مع أن يناير الماضى صار، مع توالى الأحداث المتسارعة، يبدو بعيداً عن أذهاننا وكأنه تاريخ قديم. إلا أننا نستطيع أن نتذكر السبب الرئيس، فى اندلاع الثورة ضد الرئيس، وهو: التوريث.. صحيحٌ أن الفساد المستشرى، وفقدان الأمل فى الإصلاح، وتراجع مكانة مصر إقليمياً ودولياً، والشراهة فى نهب الثروات، واحتقار الحكام للمحكومين، وحالة التناحة الرئاسية، وغير ذلك من الدواهى، كانت أسباباً منطقية لاندلاع ثورة يناير. غير أن الفتيل المفجِّر للثورة، كان سيناريو (التوريث) الزاحف نحو أرض «جمهورية» لن تلبث أن تصير مع التوريث مسخاً، لا هو بالجمهورية ولا بالملكية ولا أنزلَ الله به من سلطان.. وليس من قبيل الصدفة أن تندلع الثورات العربية، فى بلادٍ أورثت السلطة لأقارب الرئيس وزوجته (تونس) أو لابنه الصغير اللطيف (سوريا) وفى بلادٍ كانت تمضى قُدُماً على درب التوريث هى: مصر، ليبيا، اليمن.
والتوريث، كما أسلفنا، يناقض طبيعة النظام الذى يعرفه الجيش، وهو نظام: الأقدمية. بل إن «الأقدمية» تمثل عقيدة من عقائد الجيش الأساسية. ففى النظام العسكرى لا سبيل للارتقاء إلى سُدَّة القيادة، إلا بالترقى التدريجى الخاضع لمعيار لا جدال فيه، هو الأقدمية التى تفرز بشكل نظامىٍّ وصارم، القيادات.
إذن، كان الرئيس السابق مبارك يغازل الجيش ويغدق عليه، لكنه فى الوقت ذاته يطيح بالمبدأ العسكرى الأهم (مع أنه فى الأصل رجل عسكرى) حين يترك الحبل على الغارب لمن حوله من المدنيين والعسكريين الذين اختلطوا بالحياة المدنية ففسدوا، ويفسح لهم المجال للتمهيد لتوريث الحكم لجمال مبارك.
والناس فى مصر لم تحب جمال مبارك، ولم يكونوا ليقبلوا برئاسته، ولا كان الجيش سيقبل بها لأن التوريث يطيح بالنظام التصاعدى القائم على الأقدمية.. غير أن الغباء جعل حاشية الرئيس السابق تغفل عن هذا الأمر، ولا تفكر فى الكيفية التى سيقبل بها الجيش المصرى، فضلاً عن بقية المصريين، هذا الرئيس الوارث. هل سيكون هو القائد الأعلى للقوات المسلحة؟ وكيف يصح له ذلك وهو الذى لم يكن يوماً عسكريا، ولا تُعرف له مشاركة أو أقدمية؟.. والحياة المدنية فى نظر ضباط الجيش، لا بأس بها بالنسبة للمدنيين والنساء والأطفال، لكنها لا تصلح أبداً كسقفٍ أعلى للجيش، فى بلد خاض حروباً طويلة وانهزم كثيراً وانتصر قليلاً، ولا تزال الأخطار تحوطه من كل جانب.
إذن، حققت الثورة المصرية حلم الجيش المصرى بإسقاط مبارك وإلغاء فكرة (التوريث) إلى غير رجعة، فاستحقت حماية الجيش واحترامه للشهداء وأداء التحية العسكرية.. ولكن ذلك لا يعنى أن يقبل الجيش (لعب العيال) واستهبال الذاهبين لمحاصرة وزارة الدفاع أو المنطقة العسكرية الشمالية فى قلب الإسكندرية.. لماذا؟ لأن ذلك يخالف طبيعة الشخصية العسكرية التى نشأت على الانضباط وطاعة الأمر، والاعتداد بالذات، وتجريم شتم المجنَّدين، وعدم التهاون مع الميوعة، والإشادة بالرجولة، والاستخفاف بالأنوثة، وتعظيم التضحية فى سبيل الوطن.. وغير ذلك من الأمور التى لم يقدِّرها هؤلاء المتحمسون الذين ذهبوا صاخبين فى وجه الروح العسكرية الصارمة، الممثلة فى قيادة المنطقة العسكرية الشمالية بالإسكندرية وفى وزارة الدفاع بالطبع.
وبطبيعة الحال، فليس فى وُسْع الثورة المصرية الحالية مهما تفاقمت، أن تغيِّر العقائد الراسخة التى نشأ عليها الجيش المصرى، أو النظم الصارمة التى درج عليها خلال المائتى عام الأخيرة، أو الصيغ الرئيسة للحياة العسكرية: نفذْ الأمر ولو غلط، نفذْ ثم تظلَّم.. ومع ذلك، فالجيش لا يعادى ثورة يناير، لا سيما أنها حققت له هدفاً كان عسير المنال. وليس الشك وارداً فى وطنية قواد الجيش أو أعضاء المجلس العسكرى الأعلى، بل ليس هناك ما يمنعهم من (تفهُّم) الحالة الثورية التى تجتاح مصر، وإن كان الفعل الثورى فى حد ذاته (يناقض) جميع القواعد والنظم العسكرية.. وفى هذا الإطار، فلا بأس بعد أن يطمئن الجيش المصرى على أن زمام البلاد لن ينفلت، من قيامه بما يرى أنه ترضية للنفوس الثائرة، بالوسائل الممكنة التى لا تتعارض مع طبيعة الروح العسكرية الحقة. كأن يعرب عن احترامه للشعب ومطالبه، وأن يعين للمجلس العسكرى الأعلى مستشاراً ثقافياً واجتماعياً بدرجة (رئيس وزراء مصر) وأن يصبر بالروح الأبوى على الثائرين على كل سلطة أبوية «بطريركية» .. لكن الجيش لن يسمح أبداً ولأى سبب كان، بأن يُهان، أو يحاصر قيادته ثائرون حتى لو زعموا أنهم يريدون إعلان مطالبهم المعلَنة بالفعل، أو بالأحرى التى شبعت إعلاناً.
هل سيترك المجلس العسكرى السلطة؟.. لا بد لنا أولاً أن نفرِّق بين السلطة السياسية، والقيادة. وأعتقد أن الجيش الذى يمثله المجلس العسكرى الذى يمثله المشير طنطاوى، لن يسعى للاستيلاء على السلطة السياسية فى مصر، ولن ينقلب على الشعب فيأخذ بالزمام عنوةً، ولن يسير على الدرب (المدنى) المفسد للروح العسكرية.. لكنه فى المقابل، لن يسمح لنفسه بالانقياد لأمر الثائرين فى المطلق، أو لأمر غير العالمين ببواطن الأمور (من وجهة نظر الجيش بالطبع) أو لأمر القافزين على الكراسى من دون أقدمية تؤهلهم لذلك.. بعبارةٍ أخرى، فإن الجيش الذى يقوده قُوَّاد، لن يسمح بأن يقود قُوَّاده واحدٌ من هؤلاء المذكورين. لأن ذلك يطيح من جديد، بالروح العسكرية الحافظة للجيش وللبلاد، ويترك (الوطن) كريشةٍ فى مهب الريح، أو لعبة بيدِ الصغار غير الواعين.
ومن هنا، فإن أقرب المدنيين مكاناً ومكانة عند العسكريين، هم أولئك الملتزمون بالدين. فهم من وجهة نظر الجيش: يتميزون بالرجولة (الذكورية) وبالانضباط (الشرعى) وبالتقدير المتبادل منذ تعاون الضباط «الأحرار» مع الإخوان «المسلمين» وبالتسامح فى سبيل الوطن، مع أن الإسلاميين تعرضوا للقهر على يد السلطة السياسية.. ولذلك، فلا بد أن نشهد فى الفترة المقبلة تقارباً بين العسكر والإسلاميين، ليس على قاعدة (التآمر) على الثورة، وإنما وفقاً لما يراه أولئك وهؤلاء أفضل سبيل للخروج من المأزق الثورى الحالى، وتلافياً لهذا التساقط السريع للوزارات المدنية التى تتالت بعد الثورة، حتى لم يعد الناس يتذكرون عدد الوزراء الذين تم استبدالهم فى الشهور الستة الماضية .
? ? ?
وأما الطموحات الثورية، فقد أدت إلى فقدان البوصلة لأن موجات الثائرين المتوالية، تظن الموجة الأخيرة منها أن الثورة.. الثورة.. الثورة (على طريقة القذافى) هى السبيل الوحيد والغاية القصوى! مع أنه لا توجد ثورة فى المطلق، ولا ثورة إلا بتحديد الأهداف المرجوَّة، ولا ثورة إلا وفى يدها بوصلة.. فإذا كانت الثورة المصرية قد اندلعت فى يناير الماضى من أجل القضاء على فكرة التوريث، فقد قضت على الفكرة. وإذا كانت الثورة قد قامت لإسقاط مبارك، فقد سقط. وإن كانت الثورة قد قامت لمحاكمة كبار الفاسدين، فها هم تجرى محاكمتهم. وإذا كانت الثورة قد قامت لردِّ الاعتبار للناس من بعد طول مهانة، فقد حدث ذلك.
ما هو المطلب الثورى اليوم؟.. إن كثرة المطالب وتداخلها وتصارعها، وعدم الاتفاق على أهمها، كلها أمور منذرة باستنفاد الثورة لقوتها، فضلاً عن ضياع البوصلة الموجِّهة لحركة الجماهير الثائرة التى أتوقع أن تتناقص تدريجياً.. وتتناقض داخليا.. وتتراجع رويداً..
? ? ?
وأما المطامع والتقافز من أجل الحصول على ثمرات الثورة، حتى من قبل زرع الأشجار، فهو أحد الأسباب المهمة فى فقدان المؤشر العام لاتجاه الثورة المصرية، وفى تخليط الحابل بالنابل مما أصاب (الهمة الثورية) فى الصميم.. وبالتالى يضيع الصوت الثورى الرشيد، بين صخب الزاعقين الذين فى كل وادٍ يهيمون ولا يتبعهم إلا الغاوون، والفاقدون للخبرة، والحانقون على الجيش والحكومة بسبب لعبة التغييرات الوزارية الشكلية التى تأتى بوزراء شباب (بين السبعين والثمانين عاماً) وبمساعدى الوزراء قبل الثورة، ليكونوا هم الوزراء بعد الثورة.. فكيف لا تضيع البوصلة الثورية من بعد ذلك كله؟
? ? ?
وأما التآمر ضد الثورة (داخلياً وخارجياً) فهو أمر لا ينكره إلا جاهل. وإلا، فهل سيغفل المتآمرون (الأباعد) عن وقائع أعقبت الثورة، مثل إعادة العلاقات الحميمة مع دول منابع النيل، التى كانت ملعباً لإسرائيل..ومثل إعادة النظر فى اتفاقية الغاز.. ومثل التلويح من بعيدٍ باتفاقية كامب ديفيد.. ومثل ضرورة قيام مصر بدور فاعل فى المنطقة؟
هذا عن الأباعد من المتآمرين، وأما (الأقارب) أى المصريون الذين أطاحت الثورة بمصالحهم، فهؤلاء من الطبيعى أن يعملوا لإفقاد الثورة البوصلة.. بالتخطيط الإجرامى (موقعة الجمل) وبالقول الملتبس (الأحاديث التليفزيونية) وباستقطاب الثائرين (إلقاء اللُّقَيْمات).. لأن المثل المصرى السائر يقول «عُض قلبى ولا تعض رغيفى» ولا شك فى أن نتائج الثورة المصرية، تعض قلوب هؤلاء وأرغفتهم، وبالتالى فهى تستحق كراهيتهم، وسعيهم لإجهاضها وتضييع البوصلة الموجِّهة لها.
? ? ?
وبعد.. فقد كان أطباؤنا القدامى من أمثال العباقرة (الرازى، ابن سينا، ابن النفيس) يقولون: إن تشخيص العَرَض هو أول طريق الشفاء من المرض. ويقولون: إن الأمراض تُعالج بضدِّ الأسباب التى أدَّت إليها. ويقولون: إن المبادرة إلى علاج المرض الحاد المؤدى إلى الموت أهم من معالجة الأمراض المزمنة.. اللهم إنى قد بلَّغت، اللهم فاشهد بأننى فى شوقٍ إلى لقائك إن كنتَ قد قدَّرتَ لهذه الثورة أن تنهزم، فلا أظننى سوف أحتمل مزيداً من الألم.. فأرفقْ بنا يا قيوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.