ما أشد غباءنا حين نوزع أجمل ثمار العمر فوق أشواك المعرفة، ونستبدل ظلال الزيزفون وعبق الليلك بغرفة يخنقها غبار الكتب والجرائد العتيقة!. ما أحمقنا حين نودع فرشنا الدافئة وأحلامنا اللزجة لنحبس أنفاسنا بين دفتي كتاب خلف جدار نظارة أثرية بحثا عن فكرة هنا أو حكاية هناك. لو خيرت، لما اخترت عينين تقطعان آلاف الكيلومترات نحو البعيد كل يوم، ولاكتفيت بعينين لا تريان الشفق وولادة أطفال الفجر خلف ذؤابات الأشجار وفوق عمم الجبال كل يوم. لو أن لي عينين لا تريان إلا المرعى والكلأ، وتكفان عن التنقيب خلف أستار المجهول بحثا عن ثمرة قد تكون معطوبة أو مسكونة بالعفن!. محظوظة هي الكائنات، ومسكين للغاية ذلك المسكون بغواية الكشف عن المجهول والبحث عن أي غرفة مغلقة رغم كل المفاتيح وكل الغرف المفتوحة عن آخرها أمام أي زائر. مسكين ذلك الآدم الذي باع جنات كعرض السموات والأرض من أجل ثمرة لم يكتمل نضجها في شجرة مزدانة بشهوة الكشف ليشقى طيلة عمره فوق أرض مسكونة بالأشجار بحثا عن شجرة محرمة. كم عدد الجنات التي يجب أن نخسرها حتى نتمكن من الفهم وندرك أن كل الثمار المحرمة تؤدي إلى النفي أو السجن أو تزيين جدران الميادين؟. ليتها أدركت تلك المرأة التي ضاجعتها الغواية ذات غفلة من زوجها أن تسعا وتسعين غرفة مملوءة بالزمرد والياقوت تكفيها مئونة البحث عن ثراء!. ليتها ألقت بمفتاح الغرفة المغلقة في قاع أي بئر أو في جيب أي كنغر عابر للقارات قبل أن تغامر برعب كاد أن يجمعها بآدم وحواء على رصيف المعصية لولا رغبة الكاتب في رسم بسمة بلهاء على وجوه تعشق النهايات السعيدة!. وليت باندورا ربة الحسن في الأساطير الإغريقية لم تتشوف لفتح صندوق الرعب الذي رفض زوجها فتحه شكا في نوايا زيوس لتفتح على البشر أبواب النفاق والجوع والمرض والفقر على أبناء جلدتها!. طبعا لم ينفعها أو ينفع قومها حسنها، ولم تسعفها بديهتها حين أرادت أن تغلق الصندوق على جيوب الشر، لأن الشر كمارد المصباح الذي يبحث عن تحرر من عقدة تقزم في أي روح مسكونة بالرغبة. هي خطوات مشيناها، وكتب قرأناها، وتاريخ لابد وأن نتورط في كتابته رغم كل التحذيرات والأساطير القديمة. سنغامر إذن بفتح كل الغرف المغلقة في سراديب ماضينا المظلم، وسنقع في كل حفرة من حفر التاريخ مرة ومرة ومرة، لكننا لا نملك خارطة للعودة وإن خطوة واحدة. وأصابع أقدامنا التي كتب عليها أن تصبح بوصلة الحرية لكل شرفاء العالم ترفض أن تنثني حتى تغير جغرافية العالم. قلوبنا ترجف جدا ونحن على أعتاب آخر غرفة من غرف السر، وأيادينا ترعش ونحن نغامر بوضع آخر مفتاح في آخر ثقب لآخر باب في سرداب التاريخ. لكننا لا نستطيع فكاكا من أسر الغواية، وإن كان ثمن المغامرة أن نحظى بضمة غير مريحة لأشباح الغرفة المسكونة. لسنا إذن على استعداد لأي مقايضة أخرى لأي منّ وسلوى بأي بصل وثوم، ولن نترك الكتاب من أيادينا حتى نصل إلى آخر سطر في الرواية ونفهم أصل الحكاية. ألم أقل أننا أغبياء ؟...