وكأنه يعيش بيننا ، انه فرج فودة شهيد التنوير او شهيد الكلمة فهو كاتب مصري اغتيل عام 1991 بسبب دفاعه عن الدولة المدنية وايمانه بان الدولة المدنية لا علاقة لها بالدين ،فكانت له العديد من الكتابات حول الاسلام السياسي والمتطرفين الاسلاميين. فرج فودة هو من بين الكتاب القلائل الذين حملوا علي عاتقهم تنوير الشعب وانتشالهم من ظلام ووهم روج له بعض الجماعات الاسلامية المتطرفة التي كانت مصالحها دنيوية وليس دينية. عاش فودة معنا في عام 2013 علي الرغم من انه اغتيل في اوائل التسعينات كما ذكرت ، عاش واقعنا في كتاب له تنبأ فيه بكل ما يحدث في مصر الآن ، انه كتاب "النذير"، فكان فعلا نذيرا لنا ولكننا لم ننتبه. تناول الكتاب احداث كثيرة وظواهر اثارها تيار الاسلام السياسي قبل سنوات عديدة وحذر الكاتب النظام انذاك منها. الكتاب قليل الصفحات فهو لم يتجاوز المائة صفحة إلا انه حمل مواقف وظواهر عديدة لهذا التيار الاسلامي المتطرف. فقد نجح الكاتب في ان يرسل لنا رساله تحذير قوية من تلك الجماعات التي اتخذت من الدين لعبة ووسيلة لتحقيق اهداف دنيوية . تحدث فودة في كتابة عن احراز ذلك التيار نجاحا كبيرا تجاوز فيه كل الاحتمالات والتوقعات. فقد نجح هذا التيار منذ الثمانينات في تكوين مايسمي ب " الدولة الموازية" والمتضخمة باستمرار وهي تستخدم نفس اجهزة الدولة ومؤسساتها ، موضحا هذا لتوغل في تلاثة مظاهر او كما يسميها تيارات. فالتيار الاول : هو التيار الاقتصادي فكونت تلك الجماعات الاسلامية مؤسسات اقتصادية متكاملة تمثلت في شركات توظيف الاموال والبنوك والمصارف الاسلامية ، فضلا عن ان تلك المصارف غطت كافة الانشطة الاقتصادية في مصر وبلغ حجم راسمالها ارقاما فلكية ، والاكثر من ذلك ان تلك البنوك نمت في ظل قوانين الدولة ونظامها الساري وتحت سمع وبصر حكومة الحزب الوطني ، وبدلا من ان تتصدي لها تبارت معها في انشاء فروع اسلامية للبنوك القومية. الا ان تلك البنوك والمؤسسات نجحت في ان توجه ضربة للاقتصاد المصري بحيث نجحت في امتصاص مدخرات المصريين العاملين او العائدين من البلدان العربية ، اضافة الي جزء لا يستهان به من المدخرات المحلية. ليس هذا فقط ولكنها ايضا سعت الي المضاربة علي الجنية المصري ، الامر الذي ادي الي خفض قيمته بشكل درامي ، والاكثر من ذلك احتكر هذا التيار تجارة بعض السلع الاستراتيجية مثل (الذرة والسكر) وبعض السلع الكمالية. ويقول فودة ان هذا التيار كان اخطر التيارات الاسلامية لانه كان يملك الاموال التي تنفق وكان يمول بعض المطبوعات التي تخدم مصالح التيارالاسلامي. ليس هذا فقط فقد سعي هذا التيار للتاثير علي المواطن العادي وذلك من خلال تشجيع بعض الخدمات المرتبطة بالمساجد مثل المسشفيات الخيرية ، والجمعيات الشرعية. فضلا عن اعطاء حوافز مالية لتشجيع بعض الظواهر مثل الحجاب او النقاب. وسيطرت بعض شركاتهم علي بعض المصارف الاسلامية مثل شركة الشريف التي سيطرت علي المصرف الاسلامي الدولي ومحاولة الريان شراء البنك المصري الامريكي. اما التيار الثاني : هو ازدياد حجم وتنوع اتجاهات العنف المسلحة ، حيث شمل هذا التيار تهديد النظام والشخصيات العامة ووصل عدد هذه التنظيمات الي 22 تنظيما بنهاية السبعينات الا انه في منتصف الثمانينات وصل الي 44 تنظيما. وامتد نشاطها الي مهاجمة نوادي الفيديو ، والانشطة الفنية والمسارح ، واثارة الفتنة الطائفية ، ومحاولة فرض الفكر الخاص بهذه الجماعات وقوانينها الخاصة في بعض محافظات الصعيد. وثالت تلك التيارات : هو حصول الاخوان المسلمون علي الشرعية بالتحايل لاول مرة بعد ثلاثين عاما من انحسار الشرعية عنهم حيث اصبح لهم نواب في البرلمان وزاد عددهم عن 12 نائبا في انتخابات عام 1984 ، واصبحوا 30 نائبا عام 1987. وتوسع الاخوان في نشاطهم الاعلامي من خلال الصحف والمجلات المصرح بها رسميا منهم (لواء الاسلام ،المختار الاسلامي ، الاعتصام) وصحف اخري مثل (النور ، الاحرار ، الشعب ) بالاضافة الي تزايد عدد دور النشر التي تخدم افكارهم. فالتعاون والتنسيق بين التيارات الثلاثة (الاقتصادي ، المسلح ، السياسي ) كان مثمرا وايجابيا بالنسبة للجميع ، ففي الانتخابات تحالفت التيارات الثلاثة مما اسفر عن وجودهم بنسبة كبيرة وغير مسبوقة في برلمان عام 1984. كما لعبت الكثير من المساجد والجمعيات الخيرية والمراكز الاجتماعية والتعليمية المتعلقة بالمساجد دور كبير لصالح التحالف الاسلامي وخدمة مصالحها السياسية. والتي تحالفت بناء علي اتفاق محدد الا وهو : اسقاط النظام القائم واستبداله بنظام اسلامي ، ورفض القومية العربية واعتبارها مخططا امبرياليا صهيونيا ورفض الوطنية المصرية باعتبارها وثنية بالاضافة الي تأييدهم رموز ارهابية مثل الاسلامبولي والزمر وغيرهم واعتبارهم ابطال. ونجح التيار السياسي الديني في السيطرة علي بعض مؤسسات الدولة منها النقابات القائمة والتوغل داخلها من خلال الانتخابات بالاضافة الي سيطرتهم علي بعض انتخابات اتحاد الطلاب لسنوات عديدة. والادهي من ذلك فقد سيطرت تلك الجماعات علي الاعلام من خلال اختراقه ، ففي الثمانينات اصبح الاعلام يدافع عن هذا التيار ويبرر اخطاءه ويحقق اهدافه تكتيكا واستراتيجيا. وفي ظل غياب الدولة وهمينتها ، سيطرت تلك الجماعات بشكل كبير علي معظم الصحف المصرية ومن اهمها ( الاهرام ، اخبار اليوم ، مايو ) ، ومن اكثر المفكرين والكتاب الذين دافعوا عن الاخوان : احمد بهجت وصندوقه اليومي ، وصلاح منتصر ، وفهمي هويدي، بالاضافة الي الاذاعة والتليفزيون فقد اذاع التليفزيون حلقة خاصة للشيخ محمد الغزالي حول "ان من يدعو للعلمانية مرتد ويستوجب ان يطبق عليه حد الردة". بالاضافة الي توظيف كبار الاعلاميين كمستشارين اعلاميين لشركات توظيف الاموال الخاصة بالتيار الاسلامي كمحاولة للتسلل للجهاز الاعلامي الرسمي بالاضافة الي القروض الحسنة التي كانت تقدم للصحفيين وبالتالي نجحت تلك التيارات في اختراق وتطويع الاعلام. تحدث الكاتب عن اطروحة "امكانية تحقيق انوع من التوافق بين الدولة وهذه التيارات" ، فنفي الكاتب امكانية حدوث مثل هذا التوافق لان القضية ليست اختلافا بين الطرفين ولكنها تناقضا ، فلهم فكرهم الخاص فهم لا يؤمنون بالرئاسة ولكن بالخلافة ، لا يرضون بالدولة المدنية ويقبلون بالدولة الدينية ، يرفضون الديمقراطية والتعددية الحزبية ، وحرية الفكر والعقيدة مرفوض. افرد الكاتب مساحة من صفحات كتابه للحديث حول موقف القوات المسلحة من هذا الصراع بين الدولة والتيار الاسلامي ، ويري فودة ان القوات السملحة تمثل قطاعا كبيرا من المجتمع المصري ، وان تراثها التاريخي يوضح انه من الصعب دفعها للتحرك ضد مصالح واهداف القواعد الشعبية العريضة. ويري الكاتب انه في حالة صعوبة تحجيم هذا التيار الديني واقحام القوات المسلحة للتدخل في العملية اذا تأزم الموقف ، فيه خطورة لانه شكك في التنبؤ بسلوك القوات المسلحة او فعاليتها في التصرف ، مبرهنا علي تخوفه من تنامي تيار الاخوان المسلمين داخل الجيش عام 1952 ، فضلا عن استغلالهم نزول قوات الجيش للشارع اثناء حريق القاهرة للقيام بالثورة (ثورة يوليو). وتحدث عن خطورة هذا التيار علي المجتمع ، فالخطورة لا تأتي من اعداد المنضمين للاخوان او الجماعات الاسلامية ، وانما تأتي من قدرة فكر هذا التيار في التأثير علي المواطنين. وافرد الكاتب عدة صفحات في الحديث حول المقارنة بين مصر وايران ورغبة الجماعات الاسلامية في مصر تكرار تجربة ايران وتمني نجاحها مثلما نجحت الثورة الايرانية ، الا انه استبعد تماما ان يحدث هذا في مصر علي الرغم من التشابه الكبير في عدد من المعطيات والسلوكيات للتيارين الاسلاميين المصري والايراني ، الا ان مصر ليست كإيران.
بالمناسبة اعتقد انه من الاهمية بمكان ذكر موقف الادارة الامريكية من الثورة الايرانية ، فروي لنا الكاتب الموقف الامريكي حيث انقسم الي تيارين ، الاول مثله وزير الخارجية الامريكي وراي ضرورة احتواء هذه التيارات وتقديم تنازلات لها وضرورة ترك الشاه للحكم ، اما التيار الثاني فمثله مستشار الامن القومي وراي ضرورة المواجهة وان الشاه مازال قادرا علي السيطرة علي الموقف اذا استخدم عناصر القوة المتاحة ووجه ضربات عنيفة للتيار الاسلامي. ويقول فودة ان الولاياتالمتحدة تفضل وجود الاسلاميين في المنظقة ، حيث تفضل الادارة الامريكية تيار الاحتواء للجماعات الاسلامية. ويستشهد الكاتب بمقال نشر في صحيفة الاهرام بتاريخ نوفمبر 1987 بعنوان "رسالة باريس" للاستاذ مفيد الشوباشي نقلا عن تصريحات الرئيس الفرنسي الاسبق جاك شيراك بأن الولاياتالمتحدة تفضل التعامل مع الانظمة الدينية في الشرق الاوسط عن التعامل مع الانظمة المدنية. لم يقف الكاتب عند سرد المظاهر والمشكلات وانما افرد مساحة للحل ومعالجة هذا الظاهرة الخطيرة ، فقد حمل فودة مسئولية ما حدث وتنامي الظاهرة للحزب الوطني الديمقراطي والذي كان مسئولا عن تحقيق المواطنة والدولة المدنية وفقا لبرامجه ، وقال ان جماعة انتهازية سيطرت علي الحزب وخدمت مصالحها اكثر من المجتمع ، والاكثر من ذلك ان هناك بعض اعضاء الحزب الوطني انفسهم طالبوا بتطبيق الشريعة الاسلامية في المجتمع. رأي فودة ان الحل في الاعلام فقد طالب فودة الاعلام المصري بتكوين خط دفاعي مستمر من خلال استبدال اسلوب الحملات الاعلامية المفاجئة - التي تعتمد علي الموضوع المثار- الي اسلوب الخط الاعلامي الثابت ، اي من خلال تكوين خط دفاعي مستمر تستهدف اعلاء قيمة الدستور والقانون وقيمة الحضارة والدولة المدنية ، وادانة التطرف واحادية الراي واستخدام العنف ، وتوجيه الاعلام ايضا بصورة غير مباشرة من خلال المسلسلات التليفزيونية والبرامج التاريخية والحملات المخططة لتحقيق اهداف محددة. وكان خير مثال علي ذلك مافعله عبدالناصر حينما قرر الغاء القضاء الشرعي وادماجه في القضاء العادي حيث اشتغل "حادثة الشيخ الفيل والشيخ سيف" وملخص الحادثة كما ذكرها فودة ان هذين الشيخان كانا قاضيين في القضاء الشرعي اشتغلا موقعهما لعمل علاقات جنسية خارج القانون مع المتقاضيات. فكان من السهل بعدها الغاء القضاء الشرعية وتقبلها المجتمع بعد ان بثت الصحافة والاذاعة رسالة اعلامية واضحة وشن حملة لا تتناقض مع توجهاتها الاعلامية. ودعي الي الرجوع الي الاحتفال ببعض الرموز الوطنية التي دعت الي التحرر مثل قاسم امين ، والاحتفال ببعض الشخصيات النسائية مثل هدي شعراوي ، وسيزا نبراوي ، واسماء فهمي ، وغيرهن. ودعا الي تقوية دور الاحزاب المدنية واستنكر غياب دور الحزب الوطني وقال اذا تم الغاؤه فلن يحدث في المجتمع ادني اثر لانه بالفعل غائب عن المواجهة تماما.
وفي نهاية صفحات الكتاب طالب فودة المفكرين والعقلات من الكتاب والفنانين والادباء بانقاذ مصر من خطر هذا التيار المتشدد الذي يسعي الي تحويل مصر الي ايران ثانية . وناشد المسلمين قائلا " يامسلمي مصر انقذوا الاسلام من جهالة الصبية وحماقة الصغار". واختم مقالي واقول انه علي الرغم من ان الكتاب صدر في اواخر الثمانينات الا انه توقع ماحدث بالفعل في مصر هذا العام ، فقال في خاتمته ان هذا التيار المتشدد سيزداد عتوا وستزدادالكثرة لهم عداء وكرها ولن يستمر البسطاء بعيدا عن المعركة ، وانهم سينتصرون ضد كل من يهوي الظلام ويسعي للاظلام. ويقول عن تلك التيارات انهم سيصرخون وسيملأون الدنيا صرخا ، وسترتفع اصوات مكبراتهم وستتضاعف ، وستفجر قنابلهم وتفرقع رصاصاتهم ، وسيكونون في النهاية هم ضحايا كل مايفعلون ، سيدفعون الثمن غاليا حين يحتقرهم ويرفضهم ويطاردهم الجميع ، وسينقسمون علي بعضهم ويهاجمون بعضهم البعض. وأري ان هذا بالفعل ملخص ما حدث خلال عام كامل وخاصة بعد ان انكسرت شوكتهم في 30 يونيو 2013 . فسعوا الي تكفير المجتمع وخداع الناس إلا ان السحر انقلب علي الساحر فخسروا كل شئ حتي الكثير من تابعيهم. هذا الرجل كان صاحب بصيرة فقد حدث كل ماتوقعه قبل 25 عام ، وكل ما اورده في الكتاب من حقائق قد لمسناها بالفعل. واقول للاخوان المسلمين والتيار الاسلامي المتشدد حفرتم قبركم بأيديكم والآن هنيئا لكم لن نزعجكم فيه.