طرقت ثلاث دقَّات علي الباب كانت كفيلة لأن تجعلني أدخل في هدوء. تبادلنا التحيات، جلست. سألني عن حالي، فأجبت بأنها علي ما يرام رغم أنها ليست كذلك. قدم لي ورقة انقسمت إلي ثلاثة أعمدة طولية احتل اسمي فيها مركزاً مرموقاً، هذا لو قرأت الورقة من أسفل. تركت توقيعي أمام اسمي ليعلن عن استلامي المبلغ، خمسمائة جنيها، هذه هي أكبر مكافأة أحصل عليها حتي الآن. سعيداً كنت، ونيابةً عني تكلفت ابتسامة هادئة للتعبير عن هذه السعادة. لمحني وأنا علي حالتي هذه، فقدم لي ورقة أخري أودعتها إمضائي وحصلت في المقابل علي ثلاثمائة جنيها أخري نظير ما ترجمته من موضوعات صحفية من الإيطالية إلي العربية. لم تكن الموضوعات كثيرة، لكن المبلغ كان نحيلاً للغاية. صراحة: لم أكن أتوقع الحصول علي مال مقابل ما أترجم. الحمد لله. ودعته علي وعد بموضوعات أخري مترجمة كما طلب مني. خرجت أمرُق بين الشوارع في سرور. ابتسمت لفتاة جميلة كانت تنقل خطواتها بخفة، كأنها فراشة بين أزهار بستان نزل تواً من الجنة.لم يكن الشارع جميلاً بهذا القدر، لكن جمالها انعكس علي كل ما حوله وصبغه بلونه. هممت لأن أعبر لها عن إعجابي بجمالها لكنها كانت أسرع مني في الإشارة إلي سيارة أجرة أخذتها وانطلقت. أكملت سيري وقد زاد هرمون السعادة داخلي كأني أكلت علبة شيكولاتة عن آخرها. لا أعلم إن كانت الشيكولاتة تجلب السعادة حقاً أم أنه وهم صدرته إلينا المصانع التي تطبخها. هل السعادة قرار أم شعور؟ لا يهم، ليس هذا وقت الفلسفة علي أية حال. أنا سعيد الآن ولا أعلم لماذا، فلأنعم قليلاً بهذه الصديقة التي لا تزورني إلا نادراً، عليَّ أن أحسن ضيافتها بين جنبات روحي. أخرجني من شرودي وغرقي في تحديد وظيفة الشيكولاتة ومعني السعادة عجوز بائس سلَّط الزمان عليه سنينه القاسيات فأكلت لحمه، وسحبت النور من عينيه حتي خفت الضوء فيهما وقارب علي النهاية. تأبطت ذراعيه وعبرت به إلي الناحية الأخري من الشارع حتي أسلمته للرصيف يواجه العالم. وجدتني أمام حلواني العبد النائم علي الكتف اليمني لشارع طلعت حرب. طفل في نحو العاشرة جذبني بقوة من أسفل قميصي الجديد تاركاً بقعاً صغيرة تعلن عن ضرورة إعادته لمحل " الدراي كلين " في أسرع وقت. أخبرني أنه لم يأكل منذ يومين، لم تكن المعلومة جديدة، ولكن قلبي خفق، وانجذبت إلي بشرته الخمرية وعيناه الصافيتان اللتان يحرسهما من أسفل خطان أسودان يدلان علي طول السهر. انحنيت علي أذنيه أسأله: ماذا تريد أن تأكل؟ فراخ نطقها بتلذذ وكأنه يتذوقها الساعة. طلبت منه أن ينتظر لدقائق، أحضرت خلالها وجبة دجاج من " كنتاكي " تركتها لي العاملة هناك مقابل خمسين جنيهاً إلا خمسة. اصطحبته معي إلي مقهي البستان، جلسنا، هو يأكل وأنا أتأمل. كان يأكل ككلب ضال اتخذ الجوع من بطنه مسكناً. في غضون خمس دقائق كان قد انتهي، لكنه لم يمد يداً إلي البطاطس والخبز. سألته: لماذا؟ أجاب بأنه يستطيع الحصول علي الخبز والبطاطس في أي وقت، لكنه لا يستطيع إلا شم رائحة الدجاج فقط، ومشاهدة أطفال في مثل عمره يخرجون مهللين من " كنتاكي " يبصقون ما علق بأسنانهم من بقايا الفراخ. طلبت له كوكاكولا ولنفسي قهوة. جَرَعَ زجاجته علي مرتين وفرغت من احتساء قهوتي، ثم دفعت الحساب وقمنا تاركين مقاعدنا لزبائن جدد محملين بقصص جديدة، ربما أسعد. افترقنا حيث التقينا، علي رصيف شارع طلعت حرب أمام حلواني العبد. ودعته بابتسامة وربتُّ علي خده اليمني ثم انصرفت قاصداً مترو الإسعاف. المترو نعمة عظيمة، لكنها نعمة ذات رائحة تدفعني دفعاً لأن أتقيأ أنفي كيلا أشم أي رائحة في الدنيا. نزلت محطة المعادي لإنهاء بعض الأمور، ثم قفلت راجعاً إلي وسط البلد لإجراء مقابلة صحفية مع روائي حصل علي جائزة أدبية مرموقة منذ أسبوع. الكتاب عادة ما يملأون الدنيا صراخاً بأنهم لا يكتبون للجوائز، ولكنهم في الواقع يفرحون بها فرحة الطفل الذي يحصل علي "نجمة" تعطيها له مدرسته بعد أن تكتب تحتها : " ممتاز يا دكتور فلان "، ومن يَصدقون منهم، أظنهم ينظرون إلي الجوائز دائماً من خلف كوَّة في سور الإبداع. المهم، انطلقت قدماي مسرعة باتجاه مقهي زهرة البستان، وبينما أنا في طريقي إلي هناك وجدت أمامي صديقي الصغير يجلس علي جانب الرصيف ولا يزال ممسكاً بعلبة الدجاج الفارغة إلا من العظام. وجدته يلحس العظام بلسانه.