يتحرّك عمر مصطفي بمرونة بين عوالم مختلفة. خيوط رفيعة تربط هذه العوالم، لكنه لا ينشغل بشرحها أو الحكي عما ينتجه. يرسم، يصمم أغلفة الكتب، يكتب الأغاني، ويضع التصورات الفنية لألبومات الموسيقي. كما يصوّر فناجين القهوة ويتأمّل ما يترسب منها علي جدران الفنجان، وقد سبق أن نظم معرضًا لهذا النشاط، ليس من أجل قراءة الطالع وإنما لتخيل جماليات فنية متوارية بين كثافات حبات البن الناضجة. مؤخرًا صدر لعمر ديوانه الأول "الحنث العظيم" "ميريت، 2016". يتحدث الفنان البصري هنا عن تجربته مع الكتابة منذ بدأ التدوين قبل أكثر من عشر سنوات، في مدونة سرعان ما خسرها، حتي وصل، متأخرًا، إلي قرار كتابة شعر فصيح لا يخلو من الوزن في بعض الأحيان، وإلي نص الحوار. لنتكلم في البدء عن التدوين وأثره علي الكتابة. تجربتك بدأت بكتابة شعر العامية، لكن "الحنث العظيم" صدر مكتوباً بالفصحي، كيف تقيم علاقتك باللغة وتطورها؟ بدأت التدوين تقريبا سنة 2005، وقد اكتشفت المدونات بالصدفة كان ذلك مع موقع اسمه "ودادا" وكان ينشر كتابات كثيرة لنجيب سرور، وكنتُ قد عرفتُ سرور بالصدفة بسبب تسجيل "..أميات" الشهير، كان موجودا علي موقع آخر كان مهتمًا بأرشفة المحتوي الصوتي الإباحي علي الانترنت، كان ذلك بالتقريب في أوائل الألفينيات. موقع "ودادا" في الصفحة الرئيسية كان يضع صورة لإسماعيل يس بالفانلة الداخلية وعليها لوجو كفاية، كانت هذه الصورة مدخلي إلي موقع كفاية، وكان مرتبطًا بشكل ما بالمدونات فاكتشفت "جردل" علاء ومنال ومدونة "الله الوطن فاطمة" للمدون يحيي مجاهد، بعد ذلك اكتشفت مدونات أكثر كنت وقتها مهتمًا بالفن الرقمي والمنتديات الفنية مثل "ديفيانت ارت" و"شادونيس" .. تابعتُ المدونات، ثم قررت أن أدون، أنشأت مدونة علي BlogSpot كان اسمها xist كانت المدونة مجموعة من الكتابات الشخصية الصغيرة ولوحات "ديجيتال جوثيك digital gothic"، وأحيانًا كتابات سياسية، حسب الظرف، لكن الأغلب كانت تدوينات ذاتية وشخصية حتي لو فيها سياسة. ومع التدوين اكتشفتُ اهتمامي بالتعبير عن طريق الكتابة. لا أتذكر إذا كان عندي هذا الاهتمام قبل التدوين. يعني لا أتذكر علاقتي بمواضيع التعبير في المدرسة كيف كانت!؟ كنتُ مهتمًا أكتر بالرسم والنحت. في المدونة كنت أكتب بالعامية حاجات مختلفة وأحيانا تتخللها كلمات بالفصحي. لا أعرف كيف أحكي عن علاقتي باللغة، أكثر ما حببني في اللغة كان الشعر، وبالتحديد نجيب سرور، صلاح عبد الصبور، وأحمد فؤاد نجم. كنتُ، ساعات، أكتب ما يشبه الشعر بدون قصد حتي نبهني هاني مهني ( يقصد الكاتب هاني مهني وليس الملحن) أنني أكتب شعرًا. استمررت بالطريقة نفسها حتي تمّ اختراق المدونة سنة 2008 وخسرت ما نشر عليها.. كما أنني تأخرت في طلب استعادة البيانات من علاء عبد الفتاح. بدأتُ الكتابة بالعامية، وأحب الكتابة بها والقراءة كذلك. لكن علاقتي بالعامية تغيرت الآن. لم أعد أعبر بالعامية عما أفكر به، ليس لضعف بها، ربما الطريقة التي أفكر بها حاليًا تصعب صياغتها بالعامية. عندي مشكلة مع التعالي علي العامية، مع إنها لغتنا ونتكلم بها إلا أنني لا أعرف من أين يأتي هذا التعالي علي العامية! في الوقت نفسه هناك كتابات مأساوية بالعامية تجعلنا نسخر منها. من الممكن أن أخبرك أن علاقتي باللغة مرتبكة لأنني فنان بصري في الأصل، والصورة عندي أبلغ من الكلمة، لكن في الحقيقة أنا مهتم بالاثنين وأحبهما. اللغة ممتعة جدًا، إذا كانت مضبوطة، ولا أقصد هنا الصواب والخطأ، إنما في مكانها. عندي مشكلات فادحة مع اللغة، إذا تكلمنا عن قواعدها مثلا. أنا أخطئ كثيرًا، وأحاول التعلم من أول وجديد، لكن ليس لدي الحماس الكافي. نحن تقريبًا لم نتعلم في المدارس، كنتُ أحصل علي درجات- تقريبًا- نهائية في اللغة العربية، ورغم ذلك عندي مشاكل كثيرة. ليس عندي مواقف واضحة من القواعد، لكن الحديث عن القواعد وأهميتها يأخد أكبر من حجمه. - حسنًا لنتكلم عن اللغة في الحنث العظيم، هذه أول كتابة لك بالفصحي. غنت مريم صالح، دينا الوديدي، آية متولي، وعلي بغدادي أغنيات كتبتها، كانت عامية موزونة ومقفاة. في 2013 بدأت أتعامل مع الكتابة بطريقة مختلفة، من حيث اللغة والموضوعات. قبل ذلك، وبالتحديد من أواخر 2012 اختلفت طريقة كتابتي وكنت أكتب وأنا يائس من كل شيء ولا أطيق ما أكتبه. في نهاية 2013 كنتُ أصمم غلاف صديقي الشاعر إبراهيم السيد، لديوانه الأخير "أحد عشر كلباً"، وتحمست لتصميم غلاف لي. كنت سأجمع ما كتبته في السنوات الفائتة، وقلت الفكرة لصديقي الرسام أحمد أسامة واقترح عليّ أن أكتب كتابة جديدة ففعلت. كانت عندي فكرة كتاب ألبوم بمفهوم واحد، concept album، وقررتُ أن يكون اسم المشروع الحنث العظيم. كنتُ قد قررت أن يكون هذا اسم أول كتاب لي، منذ سنة 2011. كان حظي جيدًا أنني تأخرت كل هذا الوقت في كتابته. لمّا بدأت الكتابة اكتشفتُ التغيّر الحادث في طريقة كتابتي .. والديوان بعوالمه لم يكن يصلح أن يكون بالعامية. حينما أنجزت المسودة الأولي قابلتُ أحمد ناجي صدفة في الشارع، أرسلت له هذه المسودة، لم أتوقع رد فعله. أرسل لي إيميلًا وكان مندهشًا ومتحمسًا. مرة أخري كنت في طريقي إلي الأستاذ محمد هاشم صاحب دار ميريت وقابلتُ ناجي في الشارع، صدفة للمرة الثانية، وذهب معي إلي الموعد، وتحدث مع هاشم عن الديوان، وأبدي الأخير حماسًا شديدًا وبعدها حدثني الناقد عبد الحكم سليمان وتمّ النشر في دار ميريت في معرض الكتاب 2016. - في قصيدة 333 يلمح القارئ إشارات لوجود يقين قاطع، أمر يذكر بالكتابة الصوفية، تذكرتُ النفري، لكن الكتابة ليست كذلك. أنت لا تريد أن تكتب كتابة صوفية، أظن أنك تريد أن تعبر عن أمر آخر، أليس كذلك؟ في الحقيقة ليس عندي يقين قاطع. لو وجدتَ ذلك في 333 بأي شكل فهو أمر غير مقصود. أنا مؤمن بمبدأ اللا يقين لهايزنبرج. ولا أريد أن أكتب كتابة صوفية بالمعني الدارج، ليس موقفًا ضد الصوفية، بالعكس أنا أستوعب الأمور بطريقة أخري غير الصوفية. لكن سعيد أنني كتبت نصًا جعلك تتذكر النفري، وهو في الحقيقة من أقرب الصوفية لقلبي. أعتقد أنني أعبر عن نفسي وعن فهمي للكون، ليس أكثر، بقدر استيعابي. لكن في الحقيقة 333 لها علاقة بتجربة صوفية ما وهي قصيدة معارضة، لا أقصد أنها معارضة لقصيدة أخري، لكنها معارضة لبعض من الأفكار الصوفية الإسلامية. أبحث عن شيء أكثر رحابة، الطريق إلي الله بعدد نفوس الخلائق يقولون هذا ثم يقولون طريقنا هو الحق، ليس كلهم هكذا طبعًا، لكن هناك أفكارا يقينية راسخة عندهم وأنا لا أستسيغ القوالب. - ما رؤيتك لفكرة السحر؟ كنتُ لا أهتم بالميتافيزيقا بالمرة، بل كنتُ أراها مسألة ساذجة جدًا، لكن نظرتي تغيّرت بشكل كبير في الست سنوات الماضية لأسباب مختلفة مررتُ بتجربة في 2012 كان لها دورا كبيرا في تغيّري وخطرت في بالي فكرة أن الحياة سحرية جدًا أو هي السحر ذاته. تعرضتُ في 2011مثل جميع الناس للأحداث المختلفة للثورة، وكان منها تجارب شديدة القسوة، لم يتخيل أحد أننا سنراها. كل هذا الكم من القتل، تصفية العيون، السجن، التعذيب، وفي نفس الوقت كانت عندي تجربة شخصية قاسية إلي حد ما، مررتً بعدها بشيء مشابه لتجارب الاقتراب من الموت. بعدها ذهبت إلي سيناء في 2012 شعرتُ لأول مرة أنني أري كل شيء لأول مرة. شاهدتُ النجوم، الرمل، البحر، الناس، والشجر كل هذا كان جديدًا بالنسبة لي. هذا السحر له لغة، إذا قدرنا أن نتكلم بهذه اللغة يمكننا أن نُسحر نحن أيضًا. نظرية الكم كان لها دور في هذا، طبعًا أعرف أن دارسي الفيزياء عندهم مشكلة مع كثرة تحدث غير المتخصصين، لكن سأتكلم عن نظرية الكم، من منطلق فهمي الضيق لأمر شديد الاتساع، لأول مرة يحدث هذا التلاقي بين العلم والميتافيزيقا، لنأخذ السحر كمثال، هو معتمد علي الوهم، واعتبارنا أن الحياة عبارة عن وهم، فالسحر هو الحياة بشكل آخر، الكون عبارة عن أفكار في عقل في فكرة في عقل. إذا قدرنا أن نزود معلومات أو نحذف أخري لأننا نعرف أن نتكلم نفس اللغة ونحن مُنسجمون .. فهذا هو السحر. - السحر هو الحياة.. هل من ممكن أن توضح هذه الفكرة أكثر؟ أقصد أن الحياة نفسها شيء سحري جدًا، بمنطق فهمنا، كل تفاعلات الحياة هي عمليات سحرية. نستطيع قول أن السحر عبارة عن تفاعلات كيميائية وفيزيائية وإيهام ينتج عنه ظواهر خارقة للطبيعة والحياة هي وهم يدار بقوانين كيميائية وفيزيائية وميتافيزيقا وبكلمة وهم، لا أقلل من تجربتنا الإنسانية، لكن الحياة في النهاية فكرة مكوّنة من معلومات، مثل الكمبيوتر، لكنها أكثر تطورًا وتعقيدًا والإنسان في الماضي وفي الحضارات القديمة كان أكثر تطورًا من الآن. فهمه للكون كان أحسن، كان يقدر بشكل حقيقي أن يطوّر معلومات الكون فيرتقي. لا أقصد بالسحر أمورا مثل أحضر لي ظفر نملة حزينة وشارب صرصار رجله مكسورة، لكن أتحدث بشكل مطلق. المشاعر سحرية جدًا، إحساسنا ببعضنا البعض وبالكائنات الأخري شيء سحري وكلما كنّا أكثر قربًا من أنفسنا ومن الحيوانات والنباتات كنّا قادرين علي عمل تفاعلات سحرية مع العالم. - لماذا تري أننا نشهد لقاءً العلم بالسحر أو بالميتافيزيقا؟ هل لديك أمثلة لذلك؟ ليس السحر وحده، وإنما الميتافيزيقا بشكل عام. كل ما لا نملك تفسيرًا علميًا أوعقلانيًا له. لنأخذ مثالاً من ميكانيكا الكم، "الكموم" هي أصغر كمية طاقة يمكن تبادلها بين الجسيمات وميكانيكا الكم هي مجموعة نظريات تهتم بتفسير الذرة والمستوي دون الذري والجسيمات دون الذرية. بداية أغلب النظريات العلمية تبدأ بتجارب فكرية لعلماء يعارضها بقية العلماء، ومن الممكن أن يتهموا صاحب التجربة الفكرية بالجنون وبعد سنوات يتم إثبات التجربة الفكرية. الموضوع أكبر من أن يشرح هنا ويحتاج لبحث، في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الفيزياء الكلاسيكية فشلت في تفسير بعض الظواهر. ظهرت تجارب فكرية لماكس بلانك وغيره تحاول أن تفسر هذه الظواهر وبعدها هايزنبرج قدم مبدأ اللا يقين أو عدم التأكد. ساهم بشكل كبير في هدم قوانين الفيزياء الكلاسيكية وبعدها فرضية شرودنجر. بعدما كانت الأمور محددة وواضحة من حيث حركة الجسيمات والموجات أصبح الموضوع مختلفًا، لأن في المستوي دون الذري اكتشفوا جسيمات تتحرك بشكل مختلف عن المعتاد مثل الكواركات. وجدوا أن هذه الكواركات تتحرك بشكل عجيب وساحر كذلك. تتضاعف وتختفي وتظهر في أماكن أخري، أو تظهر في مكانين في وقت واحد ومن هنا وصلنا لفكرة الأكوان المتوازية، ويعمل العلماء الآن عليها وفي رأيي بما أن هذه هي أصغر مكوناتنا بالتالي نحن نشبهها، وهذا يفسر مثلا ظاهرة أبو خطوة، هذا الشخص الذي يراه الناس في أكثر من مكان في وقت واحد، أو مثلا الأفكار التي تظهر في أكثر من عقل في نفس الوقت. في النهاية تفسيري مُمتع بالنسبة لي. - نعود للغة والكلام حول العامية، مثلا، تعتمد علي الصوت.. طريقة النطق، لكنها تختلف من بيت لآخر، وليس من مدينة لأخري. لكن كيف تُكتبْ العامية إذا كنا سننطقها فلماذا نكتبها، لماذا نسجلها من الأساس إذا كانت عبارة عن نطق.. أحاول هنا أن أفتح النقاش حول اللغة وليس ضد العامية. أعتقد أن أي كلمة تكتب ممكن أن تُنطق، وكل ما ينطق يمكن أن يكتب. بعض الناس لا تقدر أن تعبر إلا بالعامية وتعبر بشكل حلو جدا، سواء في تركيبات الجمل أو موسيقاها. أنا مثلاِ مُنبهر بالشاعر الذي كان يكتب لأحمد عدوية، كتابة عجيبة وشديدة الجمال. أحب كلام نجم والعامية تصل لعدد أكبر من الناس. أعتقد أن تسجيلها لأن طريقة نطقهم لها تكون أحلي، مثل الأمثال الشعبية .. ممكن يكون معناها غير محبب، وقد نكون ضدها إلا أن لوقعها علي الأذن تأثيرا جميلا أو حلوا. - في ديوانك إشارات كثيرة، بل شفرات. كثرة الإشارات قد لا تكون سهلة في فتح تواصل معها هل كنت مشغولًا أن يعطل ذلك عملية فهم نصوصك؟ فكرتُ كثيرًا قبل النشر، لدرجة أنني كنتُ أفكر في التراجع. حماس الناس الذين قرأوا التجربة قبل نشرها في كتاب شجعني ألا أتراجع. ساعات يكون جيدًا أن الناس تفهم الأمور بطريقتهم. بالتأكيد الإشارات لها معان بالنسبة لي، لكن أن يفهمها كل واحد بطريقته أعتقد أن هذا ليس سيئًا. تفاجأتً أكثر من مرة من إعجاب بعض الناس بالكتاب، لأن أذواقهم أو طرق تفكيرهم مختلفة تمامًا عن منطقي ومنطق الكتاب. بعض الناس فهمتْ ماذا أريد بالضبط تقريبًا، كان هذا مُفرحًا بالنسبة لي. التواصل سوف يأتي، إذا لم يحدث الآن سيكون فيما بعد. - توقفتُ كثيرا عند "هاري أوم" ونغمات الكون، والتداخل مع الطبيعة وسحرها، لكن فكرتُ وقلت أن هذه النصوص معرفية جدًا، تتطلب بحث وفهم ومعرفة بعوالم أخري وهذا دائما ما كان يهدد فكرة التواصل مع القارئ ما رأيك؟ "هاري أوم" هي تحية عند الأديان الشرق أسيوية، ومقصود بها بوركت ب"أوم". وهو ما يقصد به صوت الذبذبات الأولي، لحظة تكون الكون ولها طريقة حتي نقولها، وتستخدم في التأمّل. إذا لم تفهم سيهتم القارئ ويبحث عن معناها، وهذا أمر جيد، لأن الموضوع مثير للاهتمام، في النهاية هي لعبة إذا عرفتها الناس سيكون جيدًا، وإذا لم يكن القارئ يعرفها من الممكن أن يتحمس ويجرب. ليس عندي أزمة في حدوث تواصل من عدمه.