"القصة الومضة" هذه اللفظة تحيلنا إلي تصنيف نوعي يجعل لقصة الومضة حدودًا ومقومات خاصة تميزها عن القصة القصيرة رغم اشتراكهما في العناصر ذاتها: ك(المكان، الزمان، الشخصية، الحدث، المعني) إلا أنها تعتبر قصة الحذف الفني أو الاقتصاد الدلالي الموجز وإزالة العوالق اللغوية والحشو الوصفي، والمقصود فيها أن تكون "شديدة الامتلاء" بها كل عناصر العمل القصصي من أحداث وحوار وشخصيات وخيال شديد التركيز بحيث يتولد منها نص صغير جدا حجما لكنه كبير جدا كالرصاصة أوصرخة الميلاد في التأثير علي القارئ. فالقصة القصيرة جدا "الومضة" جنس أدبي ممتع بينما يصعب تأليفه كما يقول هارفي ستابرو لذا فإن كثيرا من النصوص التي تكتب باختزال ويظن القارئ أنها "قصة ومضة" لا تعد من قبيل قصة الومضة إذ لم تلتزم بشروط صناعتها . فلابد أن يكون كاتب هذا اللون القصصي متمكنا في الأصل من الأداء اللغوي والفني ومن أساليب السرد، ولديه رؤي واسعة وشاملة يقدمها في كل مناحي الحياة والمجتمع من فكر وسياسة وغير ذلك. وفاطمة وهيدي في مجموعتها الثانية "ثلوج سوداء" التي تضمنت ما يقرب من (67) نصا تأخذنا إلي عالم الومضة بنصوص تستحق التوقف قليلا للقراءة أو التعقيب بدءا من العنوان الجاذب للقارئ للتشبيه المغاير الصادم والجميل في آنٍ واحد والذي ينم عن حالة من العبث الفني الجميل وتحمله آخر قصة في المجموعة تقول فيها: (لم ترعبها كثرة الأقزام خوفا، ولا كونهم أشرارا، - بخلاف ما قالته الأسطورة كل ما يزعجها عدم قدرتها علي الاحتفاظ بقلبها " ناصعا كالثلج " سنووايت) فالقصة في رأيي من أقوي قصص المجموعة وأكثرها براعة في الصياغة والدهشة. تراوحت كلمات القصص ما بين ثماني كلمات كقصة (خطيئة، توبة) وأقصاها لم تتجاور السبعين كلمة كما في قصة (كلاكيت آخر مرة) وهنا تعد بالقصة القصيرة وليست الومضة.. ففي قصة (شاعرة) تكتب: (كان الحزن يسكن بيوت قصائدها ذات فرح مفاجئ، تزلزلت جدران حروفها ووقعت إثر ضحكة.) فالقصة هنا تتسم بالتكثيف والغموض أيضا لذا أحيي القاصة عليها. لم يكن من مقومات الومضة التكثيف والتركيز فقط في اختيار المفردات نعم لابد أن تكون حالة إنسانية شديدة الصدق تستند إلي أقل الكلمات التي تفي بالغرض كما في قصة وهيدي (شاعر) حيث تكتب: (أحبته، فتركها وبحث عن فتاةٍ تحمل اسما لا يكسر وزن قصيدته.) إلا أن التكثيف في حد ذاته لا يصنع عملا مدهشا وقويا.. فوهيدي لديها لغة شاعرية رائعة تعاملت بها مع نصوص المجموعة واستندت علي السرد أكثر من اعتمادها علي الحوار في معظم نصوصها وهذا يجعلنا نلفت انتباهها إلي ضرورة التوقف قليلا أمام نصوصها القادمة التي نطمع أن تكون أكثر قوة وتأثيرا كما في القصص التي استندت علي لغة الحوار أكثر من السرد. فمن مقومات " الومضة " أيضا الخاتمة المدهشة حيث أنها ركيزة أساسية في القصة الومضة وهذا ما صنعته وهيدي في بعض نصوص المجموعة كما في قصة " وليمة، رحيل، طمع، بؤس وغيرها " فعلي كاتب القصة القصيرة جدا تكثيف لغته وتخليصها من الترهل واستعمال أفعال الحركة والاختصارات وتجنب استعمال الصفات و الظروف واستعمال أفعال الحركة القوية ويقلل من استخدام أفعال الوصل واستخدام الحوار بدلا من السرد في كثير من الأحيان. ويفضي التكثيف الناجح إلي لغة مشعة بالإيحاءات والدلالات فتكون رشيقة في إيصال المعني لأن اللغة الايحائية عكس التقريرية وأكثر تأثيرا. اللغة لدي فاطمة وهيدي شاعرة جدا أقرب ما يكون إلي قصيدة النثر كطبيعة الومضة وهذا يحسب إليها، لكن وهيدي لم تسلم من الوقوع في شرك الانسياق وراء سحر اللغة فانساقت وراء الحشو الزائد قليلا ونست تماما أن من أهم ملامح قصة الومضة التخلص من الحشو كما في قصة "إبداع". وفي القصة القصيرة جداً لعبة فنية أو تقنية قصصية لا غاية لها إلاّ الخروج علي السّرد، وهو خروج يبعث علي الإثارة والتشويق الذي يتحقق من ثنائية المفارقة التي من الممكن أن تحمل أبعاد التقابل أو التضاد، الرفض أو القبول، الواقعي وغير الواقعي المؤمل أو المتخيل. أيضا الومضة لا يهمها الانشغال كثيرًا بالحدث بقدر ما يهمّها أن تؤدي غرضها الفني في أن تبرق وتشع داخل النص القصصي أولاً، ثم في داخل وجدان المتلقي ثانياً. وإذا ما توافرت هذه الشروط وهي: التركيز والتكثيف والاقتصاد في الكلمات والموحيات والدلالات، والمفاجأة الصادمة التي تصل حدّ الإثارة وتحفيز مخيلة القارئ وهواجسه تجاه ما يقرأ ويتفاعل معه وينفعل به، فهي قصة ومضة بامتياز. وهذا ما نتمناه للكاتبة الجادة فاطمة وهيدي في كتابها القادم بنصوص أكثر جرأة ودهشة عن سابقتها ..لكنها بكل تأكيد تبشر بكاتبة متميزة حققت نجاحات لا بأس بها ونتمني لها نجاحاتٍ أكبر في عالمها القصصي فهنيئا لها.