المفتي: نكثف وجود «الإفتاء» على مواقع التواصل.. ونصل عن طريقها للشباب    روسيا تبدأ تدريبات لزيادة جاهزية الأسلحة النووية التكتيكية في الجنوب    دبلوماسي سابق: الإدارة الأمريكية تواطأت مع إسرائيل وتخطت قواعد العمل الدبلوماسي    أول تعليق من تعليم الجيزة على تسريب امتحان العلوم قبل بدء اللجان    توافد طلاب أولى ثانوى بالجيزة على اللجان لأداء الكيمياء في آخر أيام الامتحانات    طالب إعدادي يصيب 4 أشخاص بطلقات نارية أمام مدرسة في قنا    ما حكم ذبح الأضحية في البلاد الفقيرة بدلا من وطن المضحي؟    النشرة الصباحية من «المصري اليوم».. أيرلندا تعتزم الاعتراف بفلسطين.. وإطلاله زوجة محمد صلاح    استشهاد 10 فلسطينيين جراء قصف إسرائيلي على غزة    نتنياهو: لا نخطط لبناء مستوطنات إسرائيلية في غزة    «ما فعلته مع دونجا واجب يمليه الضمير والإنسانية».. أول رد من ياسين البحيري على رسالة الزمالك    بورصة الدواجن اليوم بعد آخر انخفاض.. أسعار الفراخ والبيض الأربعاء 22مايو 2024 بالأسواق    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأربعاء 22 مايو 2024    بالصور.. معايشة «البوابة نيوز» في حصاد اللؤلؤ الذهبي.. 500 فدان بقرية العمار الكبرى بالقليوبية يتلألأون بثمار المشمش    الأزهر ينشئ صفحة خاصة على «فيسبوك» لمواجهة الإلحاد    فضل يوم النحر وسبب تسميته بيوم الحج الأكبر    سيارة انفينيتي Infiniti QX55.. الفخامة الأوروبية والتقنية اليابانية    إبراهيم عيسى: التفكير العربي في حل القضية الفلسطينية منهج "فاشل"    أرقام تاريخية.. كبير محللي أسواق المال يكشف توقعاته للذهب هذا العام    رئيس نادي إنبي يكشف حقيقة انتقال محمد حمدي للأهلي    قرار جديد من الاتحاد الإفريقي بشأن نهائي أبطال إفريقيا    اليوم.. ختام مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة بحضور إلهام شاهين وفتحي عبد الوهاب    أترك مصيري لحكم القضاء.. أول تعليق من عباس أبو الحسن على اصطدام سيارته بسيدتين    عاجل.. حلمي طولان يصب غضبه على مسؤولي الزمالك بسبب نهائي الكونفدرالية    سفير تركيا بالقاهرة: مصر صاحبة تاريخ وحضارة وندعم موقفها في غزة    تحرك برلماني بشأن حادث معدية أبو غالب: لن نصمت على الأخطاء    افتتاح أول مسجد ذكي في الأردن.. بداية التعميم    تصل إلى 50%، تخفيضات على سعر تكييف صحراوي وقائمة كاملة بأحدث أسعار التكييفات    دراسة: 10 دقائق يوميا من التمارين تُحسن الذاكرة وتزيد نسبة الذكاء    «أعسل من العسل».. ويزو برفقة محمد إمام من كواليس فيلم «اللعب مع العيال»    نشرة التوك شو| تفاصيل جديدة عن حادث معدية أبو غالب.. وموعد انكسار الموجة الحارة    جوميز: لاعبو الزمالك الأفضل في العالم    بينهم طفل.. مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بأسوان    "رايح يشتري ديكورات من تركيا".. مصدر يكشف تفاصيل ضبط مصمم أزياء شهير شهير حاول تهريب 55 ألف دولار    أهالي سنتريس يحتشدون لتشييع جثامين 5 من ضحايا معدية أبو غالب    الأرصاد: الموجة الحارة ستبدأ في الانكسار تدريجياً يوم الجمعة    إيرلندا تعلن اعترافها بدولة فلسطين اليوم    دبلوماسي سابق: ما يحدث في غزة مرتبط بالأمن القومي المصري    عاجل.. مسؤول يكشف: الكاف يتحمل المسؤولية الكاملة عن تنظيم الكونفدرالية    جوميز: عبدالله السعيد مثل بيرلو.. وشيكابالا يحتاج وقتا طويلا لاسترجاع قوته    حظك اليوم برج العقرب الأربعاء 22-5-2024 مهنيا وعاطفيا    «الثقافة» تعلن القوائم القصيرة للمرشحين لجوائز الدولة لعام 2024    ب1450 جنيهًا بعد الزيادة.. أسعار استخراج جواز السفر الجديدة من البيت (عادي ومستعجل)    وثيقة التأمين ضد مخاطر الطلاق.. مقترح يثير الجدل في برنامج «كلمة أخيرة» (فيديو)    الإفتاء توضح أوقات الكراهة في الصلاة.. وحكم الاستخارة فيها    نائب روماني يعض زميله في أنفه تحت قبة البرلمان، وهذه العقوبة الموقعة عليه (فيديو)    النائب عاطف المغاوري يدافع عن تعديلات قانون فصل الموظف المتعاطي: معالجة لا تدمير    طريقة عمل فطائر الطاسة بحشوة البطاطس.. «وصفة اقتصادية سهلة»    بالصور.. البحث عن المفقودين في حادث معدية أبو غالب    أبرزهم «الفيشاوي ومحمد محمود».. أبطال «بنقدر ظروفك» يتوافدون على العرض الخاص للفيلم.. فيديو    موعد مباراة أتالانتا وليفركوزن والقنوات الناقلة في نهائي الدوري الأوروبي.. معلق وتشكيل اليوم    وزيرة التخطيط تستعرض مستهدفات قطاع النقل والمواصلات بمجلس الشيوخ    شارك صحافة من وإلى المواطن    إزاى تفرق بين البيض البلدى والمزارع.. وأفضل الأنواع فى الأسواق.. فيديو    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    قبل قدوم عيد الأضحى.. أبرز 11 فتوى عن الأضحية    المتحدث باسم مكافحة وعلاج الإدمان: نسبة تعاطي المخدرات لموظفي الحكومة انخفضت إلى 1 %    خبير تغذية: الشاي به مادة تُوسع الشعب الهوائية ورغوته مضادة للأورام (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فاروق شوشة‮ ..‬ الشاهد الأول علي جمال لغتنا العربية
نشر في أخبار الحوادث يوم 22 - 10 - 2016

لم أستسغ‮ ‬الفصل الدائم والممعن الغرابة‮ ‬،‮ ‬ذلك الفصل الذي‮ ‬يفرّق بين فاروق شوشة العالم العميق بأسرار اللغة العربية وجمالياتها وأبنيتها في الشعر والسرد والكتابة عموما‮ ‬،‮ ‬وفاروق شوشة الآخر،‮ ‬أي الشاعر،‮ ‬وصفة الشاعر لدي فاروق شوشة،‮ ‬هي الأصل الصحيح الذي انبنت عليه كل جهوده الأخري،‮ ‬في البحث اللغوي والنقد والإعلام والصحافة،‮ ‬وصفة اللغوي ماهي إلا الامتداد الطبيعي للشاعر،‮ ‬وسمات الشاعر هي التي تتوزع‮ ‬يمينا ويسارا في كل ماكتبه فاروق شوشة عن شعراء قدامي مثل أحمد شوقي وحافظ ابراهيم وعلي الجارم،‮ ‬ومحدثين مثل محمد‮ ‬يوسف وفولاذ عبدالله الأنور وسامح درويش وغيرهم‮.‬
وبالتالي فالشقشقات النقدية والصحافية التي تقول بأن شوشة كان باحثا كبيرا في حقل اللغة،‮ ‬وعاشقا لها،‮ ‬ومبحرا في تفاصيلها،‮ ‬وعارفا بأسرارها،‮ ‬ولكنه شاعر محافظ ولم‮ ‬يقدّم إنجازا إبداعيا علي المستوي الشعري طيلة رحلته الفنية التي تجازوت خمسين عاما،‮ ‬وإنجازه الفني لا‮ ‬يكاد‮ ‬يصل إلي مستوي مجايليه،‮ ‬فهذا كلام‮ ‬يعاني من تناقضات حادة،‮ ‬لأن فاروق‮ ‬يكاد‮ ‬يكون متطابقا في الحالتين،‮ ‬بل إن جهده كله الشعري والنقدي وعلي مستوي البحث اللغوي والإعلامي‮ ‬،‮ ‬تنتظمه منهجية واحدة،‮ ‬واستحسانه للغة،‮ ‬واكتشافاته العميقة لجمالها علي مستوي المفردة‮ ‬،‮ ‬ثم علي مستوي بنية الجملة،‮ ‬والإيحاءات الكامنة في كل منهما،‮ ‬لا‮ ‬ينسحب علي ماكان‮ ‬يقدمه في الدرس اللغوي فقط،‮ ‬بل كان‮ ‬يشمل جميع منجزاته منذ أن نشر قصائده في مجلة الآداب،‮ ‬وفي خمسينيات القرن الماضي‮.‬
وتعود تكاملية فاروق شوشة هذه إلي رصانة البدايات الثقافية الأولي،‮ ‬عندما أرسله والده إلي الكتّاب في قريته‮ "‬الشعراء‮" ‬بمحافظة دمياط،‮ ‬وفي الكتّاب حفظ القرآن أو بعضه،‮ ‬وسبر المعاني العميقة اللغوية التي تنطوي عليها لغة القرآن الكريم‮ ‬،‮ ‬وأعتقد أن كثيرا من آثار اللغة القرآنية تظلّل إبداعه الشعري عموما،‮ ‬وإن كان فاروق شوشة لم‮ ‬يتطرف في عدم تطوير اللغة في أشعاره،‮ ‬بل كان‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يفكّ‮ ‬مغاليق الألفاظ،‮ ‬ويحولها إلي استخدامات عديدة في قصائده‮.‬
وكانت مكتبة والده إحدي مكوناته في الصغر،‮ ‬وهنا أقتبس فقرة طويلة من أول حديث صحفي أجرته معه الكاتبة الصحفية سكينة السادات في مجلة الكواكب بتاريخ‮ ‬29‮ ‬أكتوبر عام‮ ‬1963،‮ ‬إذ‮ ‬يقول عن بداياته،‮ ‬وهو‮ ‬يعتبر من الحوارات النادرة في حياة الراحل‮ ‬،‮ ‬ويكشف‮ ‬فيه عن محطات مهمة في حياته،‮ ‬يقول شوشة‮ : (‬أنا مولود في قرية اسمها‮ "‬الشعراء‮" ‬بمحافظة دمياط،‮ ‬وقد سميت بهذا الاسم لأنها كانت مركزا لمعسكر للشعراء أيام الحروب الصليبية،‮ ‬ومعظم القري في محافظتنا مسماة بأسماء لها دلالة تاريخية منذ ذلك العهد مثل‮ "‬العادلية‮" ‬،و"السيّالة‮" ‬قد سميت بهذا الاسم لكثرة الدماء التي سالت فيها،‮ ‬وهناك قرية اسمها‮ "‬تريتر‮" ‬أي الخائن،‮ ‬وقد سماها الصليبيون بهذا الاسم نسبة إلي وطني من أهالي القرية سلم جميع أسرارهم إلي قيادة جيش العرب‮ ‬،‮ ‬وأهالي القرية والقري المجاورة‮ ‬ينطقون الاسم دون أن‮ ‬يعرفوا مدلوله‮ ‬،المهم وباختصار ولدت في قرية‮ "‬الشعراء‮"‬،‮ ‬وتفتحت عيناي في بيت‮ ‬يحب الشعر والأدب وبه مكتبة عامرة،‮ ‬حرص أبي الذي كان مدرسا علي أن‮ ‬يضم إليها أهم المؤلفات الأدبية القديمة والحديثة،‮ ‬وأغرمت بالشعر منذ أن كنت في العاشرة،‮ ‬حتي أنني في نهاية المرحلة الثانوية كتبت مسرحية‮ ‬
شعرية أسميتها‮ "‬علي مسرح التاريخ‮"‬،‮ ‬ولم‮ ‬يكن لدي المال وقتئذ لطبعها‮ ‬،فجمعت اشتراكات وطبعت في مطبعة بدمياط‮ ‬،ووزع منها‮ ‬500‮ ‬نسخة،‮ ‬وبعد أن حصلت علي التوجيهية‮ ‬،كنت ضمن أول دفعة من حملة التوجيهية الذين دخلوا كلية دار العلوم،‮ ‬وقد كان لتلك الكلية فضل كبير في تأكيد اتصالي بالشعر والأدب‮ ‬،وبعد أن تخرجت في كلية دار العلوم،‮ ‬التحقت بكلية التربية للتخصص في التدريس لمدة سنة،‮ ‬وبعد التخرج عينت مدرسا للغة العربية والدين الإسلامي بمدرسة النقراشي النموذجية لمدة عام كامل وهو‮ ‬1958‮ ‬،ثم امتحنت ودخلت الإذاعة بقسم المذيعين‮..‬،‮ ‬وخلال تلك الفترة قدمت برنامجين عن الشعر،‮ ‬واحد في البرنامج الثاني‮ ‬_البرنامج الثقافي الآن_ اسمه‮ "‬صوت الشاعر‮"‬،‮ ‬وواحد في البرنامج العام اسمه‮ "‬روائع الشعر‮"‬،‮ ‬ثم برنامج‮ "‬الشعر والموسيقي‮" ‬في التلفزيون‮..)‬
اقتبسنا هذه الفقرة المطولة،‮ ‬لأنها تنطوي علي معلومات،‮ ‬لا أعتقد أن فاروق شوشة رددها فيما بعد بهذا الوضوح،‮ ‬أو بهذه الدقة،‮ ‬وجدير بالذكر أن المسرحية التي ذكرها هنا‮ ‬،كانت عن الفتنة الكبري،‮ ‬وحديثه عن سبب تسمية القرية كان مختلفا عن تأويلات أخري تقول بأن تلك القرية كانت أكبر تجمع لرواة السيرة الهلالية والملاحم الشعبية عموما،‮ ‬وهؤلاء الرواة‮ ‬يطلقون عليهم‮ ‬_في القري_ الشعراء،‮ ‬وفي هذا الحوار تستدعي سكينة السادات تصريحات لمخرج برنامج‮ "‬الشعر والموسيق"ابراهيم عز الدين،‮ ‬والذي‮ ‬يقول بأن النجاح الفائق لذلك البرنامج‮ ‬يعود لصوت فاروق شوشة،‮ ‬وكذلك صحّة النطق والرصانة والعلاقة العميقة التي نشأت بين شوشة وأسرار اللغة‮.‬
يفصح الحوار كذلك عن مسيرة تكاد تكون مترابطة،‮ ‬مسيرة كانت لا بد أن تؤدي إلي تلك النتيجة التي عرفناها في البداية،‮ ‬إذ أن فاروق شوشة أجري عددا من الحوارات المهمة في ذلك الوقت،‮ ‬ومن تلك الحوارات،‮ ‬ذلك الحوار الذي أعدّه سليمان فيّاض،‮ ‬وأجراه فاروق شوشة مع الكاتب الروائي عادل كامل،‮ ‬وهذا هو الحوار الوحيد الذي أجراه عادل كامل في الإذاعة‮ ‬،‮ ‬وكذلك حوار آخر أجراه سليمان فياض في صحيفة الجمهورية،‮ ‬وبالإضافي إلي ذلك الحوار كانت هناك حوارات مع د محمد مندور ود عبد القادر القط ود علي الراعي ود زكي نجيب محمود،‮ ‬وغيرهم،‮ ‬وكلها حوارات تنمّ‮ ‬عن ثقافة موسوعية عميقة،‮ ‬وكذلك كان شوشة‮ ‬يجري تلك الحوارات عندما تنشأ بعض الأزمات الثقافية حول النقد أو الشعر أو السرد،‮ ‬لذلك فأنا أطلق عليها حوارات الضرورة،‮ ‬ومن حسن الطالع آنذاك أن شوشة كان‮ ‬ينشر بعض تلك الحوارات في مجلة الآداب،‮ ‬وأرجو أن‮ ‬ينتبه البعض لتلك الحوارات ويعمل علي جمعها وإعادة نشرها،‮ ‬حيث أنها ستكون مفيدة للحياة الثقافية،‮ ‬وسنعود لها فيما بعد‮.‬
وفي ذلك الحوار القديم لفاروق شوشة،‮ ‬نلاحظ أن المحررة تتحدث عن أن فاروق شوشة قد أصدر ديوانه الأول‮ "‬إلي مسافرة‮"‬،‮ ‬وكان ذلك عام‮ ‬1963،‮ ‬والمدهش أن هناك شبه إجماع علي أن شوشة قد أصدر ديوانه الأول عام‮ ‬1966،‮ ‬وهاهي الأوراق تنفي ذلك التاريخ الشائع،‮ ‬وتلاحظ المحررة أن شوشة تتسم نبرته الشعرية بالحزن،‮ ‬ويؤكد هو ذلك بقوله لها‮ :"‬ولماذا أكون سعيدا؟‮"!‬،‮ ‬ويبدو أن تلك الإجابة كانت تعني بأنه ليس منسجما مع الأوضاع العامة،‮ ‬وربما الخاصة،‮ ‬فعندما تسأله السادات قائلة له‮ :"‬متي تتزوج؟‮"‬،‮ ‬يقول لها‮ : "‬الزواج قيد وأنا لا أحب القيود،‮ ‬لذلك فلن أتزوج‮"!!.‬
ورغم أن فاروق شوشة كانت له تجارب عاطفية أولي،‮ ‬هذه التجارب الأولي تركت آثارا واضحة علي بعض كتاباته،‮ ‬إلا أنه كان مرتبطا إلي حد كبير بالحلم‮ "‬العروبي‮" ‬العام الذي كان‮ ‬يخايل بعض الشعراء،‮ ‬وعلي رأسهم أحمد عبد المعطي حجازي،‮ ‬وفي عدد من مجلة الآداب،‮ ‬وبالتحديد في شهر سبتمبر‮ ‬1958أعدّت المجلة ملفا كبيرا عن‮ "‬الثورة في لبنان والعراق‮"‬،‮ ‬ونشر في العدد الشعراء أحمد عبد المعطي حجازي ونازك الملائكة ونزار قباني ونجيب سرور ومحمد مهران السيد وفاروق شوشة‮ ‬،‮ ‬وبعيدا عن رفع الشعارات الرنانة،‮ ‬كتب فاروق قصيدة تحت عنوان‮" ‬شهيد الكلمة‮"‬،‮ ‬وأهداها إلي‮ "‬روح نسيب المتني رمز الثورة العربية في لبنان‮"‬،‮ ‬وجاءت كلماته خافتة‮ ‬،‮ ‬ورقيقة،‮ ‬حيث أن شوشة أدرك منذ ليونة شبابه أن الصوت الهادئ،‮ ‬هو الصوت الأعمق والأكثر أثرا،‮ ‬ويستهل قصيدته قائلا‮:‬
لم‮ ‬يكن شيئا‮ ‬غريبا‮...‬
لا،‮ ‬ولم‮ ‬يولد رسولا بين‮ ‬يديه المعجزة‮ ...‬
لا‮ .. ‬ولا باركت الشمس جبينه‮..‬
كان انسانا‮..‬
ودودا كالنسيم‮..‬
دافئا كاللمحة المتقدة‮...‬
عاريا كالأرز،‮ ‬معروقا كلبنان المدمّي‮..‬
حاملا في قلبه الغائر دنيا موصدة‮..‬
وذراعا مجهده‮..‬
وكما تولد في قلب العراء الأمنية
ثم تنمو‮ ..‬
فإذا الحب جناح‮ ‬
وإذا الإصرار قلب‮..‬
والبطولات ذراع‮..‬
وكما‮ ‬يولد بعض الناس ميلادا جديدا‮..‬
ولدت قصة ثائر‮..‬
حاملا في شفتيه الكلمة‮..!‬
ولا مجال هنا للحديث عن طزاجة المعاني،‮ ‬وليونة التعامل مع اللغة،‮ ‬وعدم الإفراط الذي‮ ‬يتسم به الدرعميون،‮ ‬فهو‮ ‬يتخفف من الألفاظ المقعرة والمكعبة والجهمة،‮ ‬وتتوالد في استطراد القصيدة المعاني الانسانية البسيطة،‮ ‬والخالية من القعقعات اللغوية التي كان‮ ‬يتسم بها بعض العروبيين،‮ ‬والبطل هنا ليس الانسان الخارق،‮ ‬بل هو الودود كالنسيم،‮ ‬والدافئ كاللمحة،‮ ‬وهو الذي‮ ‬يشبه الأرز،‮ ‬والذي‮ ‬يحمل ذراعا مجهدة،‮ ‬وهذه الطريقة في إرسال المعاني كانت تأسر شوشة،‮ ‬وكان أثر صلاح عبد الصبور واضحا،‮ ‬فشوشة أحد القرّاء والعشّاق لشعرية صلاح عبد الصبور‮ .‬
‮"‬شوشة وعبد الصبور وآخرون‮" ‬
كانت علاقة صلاح عبد الصبور بالشعراء والمثقفين تتسم بالمعاني الانسانية العميقة،‮ ‬واتسمت تلك العلاقة بالوجه الأبوي لعبد الصبور،‮ ‬وذلك علي المستوي الشعري كذلك،‮ ‬وترك عبد الصبور أثرا واسعا علي مجايليه،‮ ‬ومنهم فاروق شوشة‮ ‬،‮ ‬والذي كتب شهادة مؤثرة إثر رحيله عام‮ ‬1981،‮ ‬وكانت شهادة شوشة تحت عنوان‮ "‬صلاح عبد الصبور صوت عصرنا الشعري‮"‬،‮ ‬ولا‮ ‬يجد شوشة أدني‮ ‬غضاضة في أن‮ ‬يعلي من شأن شاعر معاصر له،‮ ‬مثلما‮ ‬يفعل شعراء آخرون،‮ ‬بالعكس كان شوشة منصفا وعادلا في قراءته للشعراء الذين سبقوه والذين جايلوه والذين أتوا بعده،‮ ‬ورأي أن ظلما ما وقع عليهم،‮ ‬فانبري ليكتب عن هذا وعن ذاك،‮ ‬مبرزا شتي أفكاره الشعرية والنقدية من خلال أطروحاته المتنوعة في قراءة هؤلاء الشعراء‮.‬
وجاء حديثه عن صلاح عبد الصبور متسما بالدفء والمعرفة في آن واحد،‮ ‬ومفعما بالفكرة العميقة،‮ ‬وبالعاطفة الفيّاضة في الوقت نفسه،‮ ‬واعتبر أن أي قراءة في ذلك الوقت‮ ‬_أي وقت رحيل عبد الصبور_ لن تكون عميقة أو مستأنية،‮ ‬ولكنه آثر أن‮ ‬يصف ما كتب بأنه شهادة،‮ ‬واعتبر أن حضوره الطاغي كإنسان وكمثقف وكشاعر،‮ ‬سوف‮ ‬يحجب الرؤية العميقة له ولدوره ولشعره،‮ ‬ورغم ذلك فقد قدّم فاروق رؤيته الثاقبة‮ ‬،وتأثره العميق به‮ ‬،‮ ‬واستل عددا من المجالات التي ضرب فيها عبد الصبور شاعرا،‮ ‬وتوقف عند قصبدة‮ "‬يانجمي‮ ‬،‮ ‬يانجمي الأوحد‮"‬،‮ ‬تلك القصيدة التي استكشف فيها شوشة العمق الانساني الذي أتي به عبد الصبور،‮ ‬وكانت القصيدة تنادي الحبيبة بالصديقة،‮ ‬يقول شوشة‮ :(‬كانت تلك القصيدة‮ ‬،‮ ‬هي بداية اكتشافي لشعر صلاح عبد الصبور وحبه،‮ ‬لفحتني من خلالها أنفاس عاشق عصري مضعضع مسكين،‮ ‬منكسر القلب،‮ ‬مقصوم الظهر،‮ ‬وشدني التحام نسيجها بصيغة العصر في الحب‮ ‬،من خلال الصوت المجهد‮ ‬يتلاقي القزمان المنهوكان العليلان،‮ ‬يواجهان الليل الموحش والرعب المسيطر،‮ ‬ويعريان من زيف العصر وأكاذيبه،‮ ‬ولا‮ ‬يعد كل منهما صاحبه‮ ‬_وهما العاجزان_ بشئ،‮ ‬حتي بأمل الحب في ظل الأيام المريضة‮ ...).‬
ومن خلال قراءتنا لشهادة شوشة،‮ ‬نلاحظ أنه‮ ‬يواجه حبّ‮ ‬صلاح عبد الصبور،‮ ‬بحب بدر شاكر السياب،‮ ‬وبحب ابراهيم ناجي وعلي محمود طه،‮ ‬وبحب محمود حسن اسماعيل،‮ ‬ورأي أن عبد الصبور كان أصدقهم،‮ ‬أوأكثرهم ملاءمة للعصر الذي‮ ‬يعيشون فيه جميعا،‮ ‬إذ أن حب عبد الصبور لا‮ ‬يتسم بتلك الفروسية العربية التي اكتشفنا أنها فروسية لغوية،‮ ‬وبعضها مجرد قعقعات فارغة،‮ ‬ولا تدخل في سيّاق التجربة العاطفية أساسا،‮ ‬وجاءت تجربة السيّاب المعبرة‮ ‬_شعرا_ عن حبّه الأول‮ ‬،‮ ‬متسمة بذلك الانتفاخ اللغوي المتعالي،‮ ‬كما كانت تجربتا علي محمود طه وابراهيم ناجي تتسمان بذلك الضعف الذي‮ ‬ينفي التحقق النساني،‮ ‬ويظل شوشة‮ ‬يعقد مقارنات عديدة بين تجربة عبد الصبور،‮ ‬وتحارب الآخرين،‮ ‬ونكتشف كم كان شوشة متأثرا بعبد الصبور الشاعر والانسان والمثقف،‮ ‬وكأنه كان‮ ‬يردّ‮ ‬علي بعض من آذوا عبد الصبور في حياته،‮ ‬وكأنه_أيضا_ يردّ‮ ‬علي من آذوه هو شخصيا‮ ‬،‮ ‬فلجأ إلي توضيح موقف عبد الصبور الانساني والفكري والشعري في نهاية المطاف‮.‬
وكما فعل مع عبد الصبور،‮ ‬توقف عند تجربة محمود حسن اسماعيل،‮ ‬تلك التجربة التي بدأت بديوانه الأول‮ "‬أغاني الكوخ‮"‬،‮ ‬الذي صدر عام‮ ‬1935،‮ ‬وفي ذلك الديوان الأول،‮ ‬استطاع إسماعيل أن‮ ‬يلفت نظر الحياة الثقافية والشعرية إليه،‮ ‬إما سلبا وإما إيجابا‮ ‬،‮ ‬وهناك من الشعراء الذين شعروا بأن هذا الشاعر الشاب جاء ليخطف الأضواء،‮ ‬بتلك البدع التي أتي بها،‮ ‬بداية من العنوان الغريب‮ "‬أغاني الكوخ‮"‬،‮ ‬فمتي كان الكوخ له أغان‮ ‬،‮ ‬ومتي دخلت تلك المفردات الشعرية العربية،‮ ‬ومتي كان الريف فاعلا بهذه الكثافة في الشعر،‮ ‬وحاول كثيرون التقليل من شأن ذلك الشاعر وهذا الشعر،‮ ‬فكتبوا مشابهات له،‮ ‬ليسخروا منه،‮ ‬وسرعان ماراح‮ ‬إسماعيل‮ ‬يأخذ وضعه الطبيعي في الحياة الأدبية،‮ ‬فأصدر ديوانه الثاني‮ "‬هكذا أغني‮" ‬عام‮ ‬1938،‮ ‬وكان ديوانه الإشكالي الذي كتبه عن‮ "‬الملك فاروق‮"‬،‮ ‬ونال تقريعا واسعا‮ ‬_وذلك بعد ثورة‮ ‬يوليو_ من كثير من منافسيه،‮ ‬ويأتي فاروق
شوشة ليكتب منصفا لمحمود حسن اسماعيل،‮ ‬ويعتبر أن كتابته لديوان الملك،‮ ‬لم تكن إلا تمريرا لبعض الأفكار والمعاني التي تلفت النظر إلي الفقراء،‮ ‬وفي دراسته العميقة والواسعة عن محمود حسن اسماعيل‮ ‬،‮ ‬يعمّق من انحياز اسماعيل للفقراء،‮ ‬ويقتبس كثيرا من قصائد الديوان،‮ ‬ليبدي كم كان اسماعيل شاعرا بهؤلاء الفقراء‮.‬
ولأن فاروق شوشة شاعر وناقد ذو ضمير حيّ،‮ ‬كان لا بد أن‮ ‬يقول بأن كتابة هذا الديوان،‮ ‬تعني من جانب آخر،‮ ‬حلم محمود حسن اسماعيل بإمارة الشعر،‮ ‬حيث أن أول مافعله عندما جاء إلي القاهرة ونزل من قطار الصعيد،‮ ‬توجه من محطة السكك الحديدية ليشارك في جنازة أمير الشعراء أحمد شوقي،‮ ‬ورأي بعد ذلك أن إمارة الشعر سوف تعقد له،‮ ‬وكان هذا الديوان نوعا من التقرّب إلي الملك،‮ ‬ولكن دون أدني إسفاف،‮ ‬ودون أن‮ ‬يتخلّي عن انحيازه للفقراء والفلاحين،‮ ‬والمأساة التي كان‮ ‬يعانيها في مسألة الإمارة تلك،‮ ‬أن شاعرا آخر وهو علي الجارم كان‮ ‬ينافسه بقوة،‮ ‬ويملك‮ ‬_في مجال المديح المحض_ ما لا‮ ‬يملكه محمود حسن اسماعيل‮.‬
المهم أن فاروق شوشة،‮ ‬كان‮ ‬يقدّم قراءات نقدية رصينة وثاقبة وعميقة‮ ‬،وذلك علي المستوي اللغوي والفكري،‮ ‬ولكنه كان‮ ‬يشرع قلمه وأفكاره من أجل إنصاف هؤلاء الشعراء الكبار،‮ ‬هؤلاء الشعراء الذين أصيبوا ببعض الجراح من صغار لا‮ ‬يدركون قيمة الشعر ولا قيمة الشعراء،‮ ‬وراحوا‮ ‬يكيلون الاتهامات من هنا،‮ ‬ومن هناك،‮ ‬دون أدني مسئولية،‮ ‬وكأن فاروق شوشة‮ ‬يدفع عن هؤلاء الشعراء الذين أوذوا في حياتهم،‮ ‬كما‮ ‬يدفع عن نفسه كافة أشكال الأذي التي نالته من صبية لم‮ ‬يدركوا قيمته،‮ ‬فراحوا‮ ‬ينزعون منه قيمته الشعرية،‮ ‬وهي الأساس الذي‮ ‬يقوم عليه كيان فاروق شوشة،‮ ‬ويختصرون جهده في مجرد أنه مجرد إعلامي ومقدم برامج،‮ ‬أو باحث في اللغة،‮ ‬أو انسان طيب‮!!‬
‮"‬فاروق شوشة ومن أتوا بعده‮"‬
ولم‮ ‬يكتف فاروق شوشة بإنصاف الشعراء الذين سبقوه،‮ ‬مثل محمود حسن اسماعيل وصلاح عبد الصبور وغيرهم،‮ ‬بل أنه كتب سلسلة مقالات،‮ ‬تلك المقالات التي تقف بين الدرس النقدي من ناحية،‮ ‬والطابع الصحفي التعريفي بالشعراء الذين تناولهم‮ ‬،‮ ‬وهم شعراء‮ ‬يكاد النقاد‮ "‬الرسميون‮" ‬لا‮ ‬يعرفون عنهم شيئا،‮ ‬ولو كانوا‮ ‬يعرفونهم،‮ ‬فهم‮ ‬يعزفون عن الكتابة عنهم،‮ ‬لأنهم ليسوا جالبين لأي حظّ‮ ‬من الشهرة ولا الأضواء،‮ ‬لذلك جاءت مقالات فاروق شوشة المعنونة ب"أصوات شعرية مقتحمة‮"‬،‮ ‬وكان‮ ‬ينشرها في جريدة الأهرام ذائعة الصيت،‮ ‬لعله‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يصل بتلك الأصوات إلي القارئ الذي لا تصله سوي تلك الجريدة،‮ ‬وجمع شوشة مختارات من تلك المقالات،‮ ‬وجمعها في كتاب تحت العنوان نفسه الذي كان‮ ‬يكتب به المقالات،‮ ‬وصدر الكتاب عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام‮ ‬2004.‬
في ذلك الكتاب نجد تلك الأصوات التي عانت من الاستبعاد طويلا،‮ ‬مثل جميل محمود عبد الرحمن وعبد الحميد محمود وسامح درويش وفوزي خضر وفولاذ عبدالله الأنور وأحمد فضل شبلول ومحمد‮ ‬يوسف ونصار عبدالله ومشهور فواز وآخرين،‮ ‬ويقول شوشة في مقدمة الكتاب‮ :(‬لا‮ ‬يزعم هذا الكتاب ولا‮ ‬يدّعي أنه‮ ‬يقدم قراءة نقدية لهؤلاء الشعراء الأربعة عشر،‮ ‬الذين توقفت عند شعرهم،‮ ‬وإنما هو‮ ‬_في جوهره_قراءة محبة،‮ ‬هدفها الكشف عن هذه الأصوات الشعرية التي أري أنها لم تنل ما تستحقه من اهتمام،‮ ‬وهي في مجموعها،‮ ‬وتنوع أنغامها‮ ‬،واختلاف مساراتها وأعمارها‮ ‬،‮ ‬تشكل صفحة أو لعلها صفحات من ديوان الشعر المصري المعاصر،‮ ‬لا أظنه‮ ‬يكتمل بدونها‮ ‬،‮ ‬أو تنضح معالمه وقسماته بدون الإشارة إليها‮ ..).‬
ولا‮ ‬يكتفي فاروق شوشة في تلك القراءات النقدية لدواوين هؤلاء الشعراء عند السمات الفنيّة التي جاءت في قصائدهم،‮ ‬بل إنه راح‮ ‬يجمع عنهم المعلومات،‮ ‬وظروف حياة كل واحد منهم،‮ ‬والمعوقات التي نالت من هذا،‮ ‬وعطلّت تجربة ذاك،‮ ‬طرح فاروق كل ذلك من زاوية المتعاطف والمنصف والمدرك للنصال التي تتكسر علي ظهور هؤلاء الشعراء،‮ ‬عندما‮ ‬يطلبون العيش في البلاد البعيدة،‮ ‬ويذهبون لمجرد الضمان الاقتصادي الكريم،‮ ‬ذلك الضمان التي لا توفره بلادنا إلي هؤلاء الشعراء‮ ‬،‮ ‬فهذا سامح درويش الذي لا‮ ‬يتقن سوي كتابة الشعر،‮ ‬ولا‮ ‬يعرف فنّ‮ ‬ترويج نفسه وشعره،‮ ‬يذهب إلي الجزائر،‮ ‬ويغيب لمدة سنوات،‮ ‬ويغيب معه الشعر،‮ ‬فيصدر ديوانه الأول عام‮ ‬1992،‮ ‬وهو الديوان الذي كان مقدرا له أن‮ ‬يصدر عام‮ ‬1975،‮ ‬وهذا جميل محمود عبد الرحمن كذلك،‮ ‬تعمل علي تعويقه تجربة السفر والبحث عن ملاذ اقتصادي بديل،‮ ‬وكذلك الشاعر محمد‮ ‬يوسف،‮ ‬الذي ذهب إلي الكويت منذ بواكير حياته الشعرية‮ ‬عام‮ ‬1976،‮ ‬ويغيب هناك حتي رحيله في عام‮ ‬2006،‮ ‬وكان‮ ‬يوسف‮ ‬يحاول التواصل مع رفاق جيله‮ ‬،‮ ‬دون أي جدوي‮.‬
أعتقد أن فاروق شوشة لم‮ ‬يكتف بالكتابة فقط عن شعراء مابعد الستينات والسبعينات،‮ ‬ولكنه كان‮ ‬يستضيفهم في الإذاعة،‮ ‬ويفتح لهم فرصا قوية للمشاركة بقوة في تقديم بعض البرامج،‮ ‬وإذاعة أشعارهم في برنامجه المرموق،‮ ‬ويكتب الشاعر والقاص سمير الفيل علي صفحته بموقع التواصل الاجتماعي،‮ ‬بأنه في إحدي زياراته لفاروق شوشة في الإذاعة،‮ ‬سأله شوشة‮ :"‬لماذا لا تقدم برنامجا‮ ‬يخصّك؟‮"‬،‮ ‬ورد سمير بأنه علي استعداد لذلك،‮ ‬وعندما زاره سمير في الأسبوع التالي،‮ ‬وجده وقد قدّمه لأحد المخرجين،‮ ‬وقدم سمير برنامجا عن بعض أبطال حرب أكتوبر علي مدي خمسة عشر أسبوعا‮ ‬،‮ ‬أي خمس عشرة حلقة،‮ ‬ومافعله فاروق شوشة مع سمير الفيل‮ ‬،‮ ‬كان‮ ‬يفعله مع‮ ‬غالبية الشعراء والكتّاب والمثقفين الشباب‮.‬
‮"‬الشاعر‮ .."‬
بالطبع أن فاروق شوشة لم‮ ‬يكن مزاحما بأي شكل من الاشكال لأي أحد معاصريه الشعراء،‮ ‬لم‮ ‬يكن مزاحما لأبناء جيله‮ ‬،‮ ‬ولا لمن سبقوه‮ ‬،‮ ‬ولا من أتوا بعده‮ ‬،‮ ‬ولم‮ ‬ينجرف إلي تلك التيمات الشعرية التي كان‮ ‬يعتبرها‮ ‬غريبة علي الشعر العربي،‮ ‬وهو كان متمسكا بالصفات الشعرية العربية التي لم تدخل عليها تلك العجمة المفسدة‮ ‬،‮ ‬وعندما أقول‮ "‬العجمة‮"‬،‮ ‬أقصد تلك الرطانة التي تتوغل في قصائد بعض الشعراء دون رابط أو صلة بالتجربة‮ ‬،‮ ‬ولكن فاروق شوشة كان‮ ‬يسبر‮ ‬غور ما‮ ‬يكتب‮ ‬،‮ ‬حتي لو كان مايكتبه واضحا وتقريريا وبسيطا،‮ ‬فهو ليس مضطرا أن‮ ‬يفسد تجربته بتلك الموجات التي جردت الشعر من عفويته وتلقائيته‮ ‬،‮ ‬والتلقائية هنا‮ ‬،هي بساطة الروح التي تبكي وتئن وتفرح وترقص وتغني دون استدعاءات مفتعلة‮ ‬،‮ ‬وفي قصيدته‮ "‬المغني‮ ..‬والشيخ نظّام الدين‮"‬،علي سبيل المثال،‮ ‬ندرك عمق وجمال تلك اللغة التي‮ ‬يعرفها ويعشقها فاروق شوشة‮ ‬،‮ ‬ويقدمها بالطرق المختلفة،‮ ‬في الشعر كما في البحث النقدي،‮ ‬يقول‮ :‬
كان‮ ‬يغني
يعول في صحن المسجد‮ ‬
يجأر بالصمت المخنوق‮ ‬،‮ ‬ويجهش بالدمع الأسود،
ينسكب الحزن‮ ‬،‮ ‬وتنغرز اللحظات القاطعة النصل،
تغوص السكين‮ ‬،‮ ‬الجرح‮ ‬يسيل‮ ‬،‮ ‬الرأس‮ ‬يميل‮ ‬،
الخطو المشدود المتوتر‮ ‬يصغي‮ ‬،‮ ‬يثاقل‮ ‬،
يدنو من قلب المشهد‮ ‬
غمغمة الصوت تبين‮ ‬،‮ ‬تردد‮ :‬
يثرب
مكة
ومحمد‮!‬
ضائعة في سيل العجمة‮ ‬،‮ ‬في لفح مباخر وعطور
يا ألله‮ !..‬
صوت‮ ‬يتردد في الصحن المهجور
فتميل مآذن توشك أن تركع
وتئن منابر‮ ‬_كانت تسعي صوب أمام الدنيا والدين
تهرول بين‮ ‬يديه‮ ‬،‮ ‬تلامس موطئ قدميه‮ ‬،
وتسبح في كلمات النور‮...‬
بالطبع لا‮ ‬يسمح المقام هنا لتحليل وقراءة القصيدة‮ ‬،‮ ‬لكنني أود أن‮ ‬يتابع قارئ تلك القصيدة،‮ ‬ذلك التصاعد الدرامي،‮ ‬واضطراد الصور والمعاني،‮ ‬وتوارد المفردات المختلفة‮ ‬،‮ ‬واستدعاء‮ ‬يثرب ومكة ومحمد‮ ‬،‮ ‬ووضع علامة تعجب‮ ‬،‮ ‬ويفضي بنا تأمل ذلك المقطع من تلك القصيدة،‮ ‬إلي اكتشاف التقنية التي‮ ‬يتبعها فاروق شوشة،‮ ‬بل التقنيات التي انبثت في كل أشعاره،‮ ‬ولكن ذلك الزحام،‮ ‬وتلك الاستبعادات التي نلاحظها تتزايد‮ ‬يوما بعد‮ ‬يوم،‮ ‬لا تسمح بقراءات صافية وعادلة لفاروق شوشة وآخرين جايلوه أو سبقوه أو أتوا بعده،‮ ‬ونأمل في الزمن القادم‮ ‬_إن شاء الله_ أن‮ ‬ينزاح ذلك الغبار لاكتشاف تلك المعاني التي لم ندركها في ذلك العصر الملئ بالأشواك‮ ‬،‮ ‬رحم الله الشاعر الكبير،‮ ‬واللغوي العارف بأسرار العربية،‮ ‬والناقد‮ ‬المحترم والمنصف فاروق شوشة‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.