كاد جمال الغيطاني رحمه الله أن يفقد حياته شابا أثناء فتره عمله كمراسل حربي .. ولذلك قصة شهيرة رواها أكثر من مرة .. حيث ذهب ليبحث عن ذلك القناص المصري الشاب الذي استطاع صيد عدد من الجنود الإسرائيليين، والذي عرف عنه أيضا أنه كان فنانا تشكيليا، استقل الغيطاني السيارة لمقابلة الفنان القناص إلا أنه تعرض لقصف العدو، والتي لولا تصاريف القدر لفقد الغيطاني حياته.. ونجا بأعجوبة ليكتشف بعدها أن هذا البطل هو الفنان أحمد نوار. وكما شكلت فترة عمله كمراسل حربي جزءاً لا يتجزأ من تكوين الغيطاني، كانت الحرب أيضا مكونا أساسيا من مكونات تجربة الفنان أحمد نوار... فالحرب في أعماله كما يذكر د. حسن يوسف أستاذ الفلسفة وعلم الجمال .. فكرة سارية ومهيمنة عليه منذ أن كان في القوات المسلحة ولم تنته .. مضيفا أن كل ما يفعله نوار منذ بدايته يتصل بفكرة واحدة ولكن جوهر إبداعه يتضح في تجليات الفكرة وتنوعاتها الفنية وكيفية عرضها في كل مرة. جاء ذلك خلال الندوة التي استضافتها مكتبة القاهرة الكبري احتفالا بتوقيع أحدث الكتب التي تتناول مسيرة د.أحمد نوار الفنية والصادر تحت عنوان "نوار .. والحرب لا تنتهي" للمؤلف د. حسن يوسف طه. يقع الكتاب في 360 صفحة وقدم له الناقد الكبير د.شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق، ويحتوي الكتاب علي ما يقرب من 200 صورة لأعمال فنية ولمواقف تسجل لحظات مهمة في حياة المحتفي به ، ويضم الكتاب الصادر عن مؤسسة إيه أر برنت هاوس للطباعة والنشر ستة فصول ترصد وتسجل محطات متنوعة في مسيرة الفنان أحمد نوار وتكشف للقارئ جوانب مهمة من شخصيته الإبداعية المهمومة دوماً بالحركة الفنية والثقافية المصرية والعربية، كما يُعد الكتاب توثيقاً مهماً يُسلط الضوء علي أبرز المواجهات التي خاضها "نوار" جندياً قناصاً علي خط النار، وفي معركة الحياة مُبدعاً بريشته وألوانه في سبيل التنوير وأمانة الكلمة وأصالة الإبداع وكلها قضايا وإشكاليات وحروب لا تنتهي. وخلال كلمته التي ألقاها في الندوة قال د. شاكر عبد الحميد: عندما أتحدث عن نوار .. فإنني أتحدث عن إنسان مصري أصيل صاحب تجربة خصبة شديدة الثراء علي المستوي الإنساني والمستوي الفني والمستوي الإداري.. وعندما نتكلم علي المستوي الإنساني فالكتاب يعرض لمسيرة متميزة .. فيها تجدد وإضافة ووعي يتفتح.. ورؤية للعالم تتبلور وتتجسد في مراحل كثيرة علي أنحاء شتي وذلك بداية من خروجه من القرية وذهابه للمدرسة الثانوية في طنطا وانضمامه لكلية الفنون الجميلة ثم تخرجه وعمله بالجامعة، والتحاقه بالقوات المسلحة وهي فترة مهمة جدا سجلها نوار في كتاب "عين الصقر " الذي رصد فيه تجربته كقناص ومقاتل وبطل من أبطال القوات المصرية المسلحة خلال حرب الاستنزاف.. ذلك بالإضافة إلي توليه عدة مناصب مهمة ومنها رئاسته للهيئة العامة لقصور الثقافة .. وقطاع الفنون التشكيلية إضافة إلي تأسيسه كلية الفنون الجميلة بالمنيا .. وله طلابه الذين يتعلمون منه في مصر وخارجها .. كما هناك العديد من رسائل الدكتوراه عن أعماله. وأضاف عبد الحميد: عالم نوار عالم شديد الثراء من حيث المفردات التشكيلية التي يصعب حصرها .. فهناك رموز كثيرة في أعماله منها الحمام والغربان والأحلام وطواحين الهواء .. والهدم والبناء والحرب والسلام.. والدخول إلي النفس والخروج إلي أفاق العالم.. وغير ذلك. إضافة إلي دلالات الألوان فمثلا الأصفر المرتبط بالصحراء أو الذهب ، والأحمر الذي يمكن أن يرتبط بالدم والانفجارات أوالورود والحب، وهكذا تتنوع الدلالات والمعاني الخاصة بكل مفردة من هذه المفردات.. ويأتي هذا كله في إطار استخدام الفنان لتنوعيات من الرسم والتصوير والنحت والجرافيك وفنون الفيديو أرت. كذلك ركز عبد الحميد خلال الندوة علي مفهوم الطاقة في أعمال نوار قائلا : أعماله بشكل عام تجسد الطاقة الموجودة في العمل الفني أو الحياة الفنية بشكل عام.. الطاقة الكامنة في الزمان والمكان والإنسان .. في الفنان أو في الوسيط الفني أوفي المتلقي . وأضاف عبد الحميد: أن الطاقة ليست شيئا واحدا في أعمال نوار بل هي متجددة فقد تصبح كثيفة مصمتة غامضة متجسدة من خلال الظلال السوداء أو الأزرقات بتدرجاتها الكابية المثيرة للكآبة وقد تشف وتصفو وتخف حتي تصل لأقصي درجات الأبيض النقي. وخلال حديثه ربط عبد الحميد بين مفهوم التمويه في عمليات القنص والتمويه في حياة الفنان قائلا : في كتاب عين الصقر يتحدث د.نوار عن أهمية التمويه في عملية القنص، وأعتقد أن التمويه في الحرب هدفه الحفاظ علي الحياة وخداع العدو واستخدام الحيل والذكاء .. وهذا صحيح أيضا للفنان الذي يقوم بعملية تمويه ويستخدم حيله الفنية .. فالتمويه في التصوير والنحت وفي الفنون البصرية يتم خلاله استخدام ما يسمي بالتفكير البصري الذي عرفه رودولف أرنهايم بأنه محاولة رؤية أو فهم العالم من خلال لغة الشكل والصورة ، فالتمويه مرتبط لدي نوار بهذا التفكير البصري وأيضا بجدلية النور والظل. كما أكد عبد الحميد أيضا علي كون " الزمكان" مفهوم أساسي في أعمال أحمد نوار وهو المفهوم الذي يجمع بين الزمان والمكان كوحدة واحدة، فلا يمكن فصل مفهوم الزمان عن المكان في أعماله. وخلال الندوة أشار د.حسن يوسف أنه ليس له علاقة ككاتب بالفن التشكيلي من قريب أو من بعيد، قائلا: عندما أكتب أحترم تخصصي وهو الفلسفة وعلم الجمال فأنا أبحث عن الفكرة التي تهيمن علي الفنان ولكنني لست متخصص في الفن التشكيلي فأنا لا أستطيع الحديث عن التكنيك والخامة والأسلوب، ولكنني أبحث عما إذا كان هناك فكرة وراء أعمال الفنان تجعلني أتوقف عندها. ومنذ أن رأيت أعمال نوار للمرة الأولي من خلال أحد معارضه بالكلية التي كنت منتدبا لها جذبتني الفكرة ، بل تحولت أعماله لموضوعات بحثية أكلف بها الطلبة. وربما ظل د.حسن يوسف يعرف نوار جيدا من خلال لوحاته وأعماله دون أن يعرفه شخصيا ، وربما كانت الصدفة هي التي مهدت الطريق لخروج هذا الكتاب إلي النور، حيث يروي د.حسن كيف التقي بالدكتور نوار ذات مرة وسأله عما إذا كانت أسئلة الطلبة التي يبعثها أسئلة جيدة بالنسبة له كفنان، وهنا عرف نوار أن لحسن يوسف اهتمام بأعماله وكتابات عنه وطلب منه أن يطلع علي ما كتبه عنه، من هنا ولدت فكرة الكتاب منذ 2010 . وحول كتاب "نوار .. والحرب لا تنتهي" علق د. حسن قائلا: أعتبر هذا الكتاب استشرافا للمستقبل .. فعندما رسم نوار هذه اللوحات بعد حرب الاستنزاف .. يبدو أنه كان يرسم أيضا تلك الحرب التي نعانيها الآن، وهذا الكتاب يفسر لنا ما يحدث .. وأضاف د.حسن: إن الفن الحقيقي الصادق يستطيع أن يفسر الحاضر ويفسر أيضا المستقبل، وعندما تدخل إلي عالم اللوحة وتستبطنها تكتشف أنها تفسر الواقع المعاصر .. ولذا فإن لوحاته تفسر لنا الواقع وأن الحرب لن تنتهي أبدا. ومن جانبه ذكر د.أشرف رضا المسئول عن الإخراج الفني والتصميم وكذلك النشر من خلال دار النشر التي أسسها خصيصا لنشر الكتب المتخصصة في الفن التشكيلي قائلا : أشكر د.أحمد نوار أن أعطانا الفرصة لنشر هذا الكتاب المهم وهو الثاني بعد "عرس الشهيد"، وهناك كتاب ثالث تحت الإعداد حاليا حول المرجعيات الفنية في أعمال نوار .. مضيفا أن هذا الكتاب يأتي كإضافة مهمة للمكتبة التشكيلية العربية التي ينقصها الكثير من الكتب التي تثري الثقافة الفنية. أما نوار فقد تحدث قائلا : إن مثل هذه الكتب مكلفة جدا ولكننا نحرص أن تكون علي مستوي عالي من الإخراج والطباعة ، مضيفا أن إصدار مثل هذه الكتب تأتي كجهد من جانب الفنانين في محاولة توثيق أعمالهم في ظل وجود قصور من جانب الدولة فيما يتعلق بالتوثيق الفني وتأليف الكتب الفنية، وكذلك قصور دور النشر في مصر والعالم العربي لعدم تبنيها تكليف نقاد وكتاب لتقديم كتب عن الفن العربي والفن المصري وتاريخ تطور هذا الفن، وأضاف نوار : نحن نجتهد كل علي حسب استطاعته ليعد بعض الكتب عن أعماله الفنية ، وأكد أنه مهتم جدا بإهداء كتابه لجميع المكتبات الفنية بالكليات الفنية والمؤسسات الثقافية و لمكتبة الأسكندرية، بحيث يكون الكتاب متاحا للباحثين والمهتمين.