فاجا البنك المركزي أول أمس كل المنتظرين والمتوقعين أو المبشرين بتعويم الجنيه المصري.. أو علي الأقل تخفيض قيمته أمام الدولار ومن ثم بقية العملات الأجنبية.. قرر البنك تثبيت سعر الجنيه أمام الدولار عند 8٫78 جنيه للدولار للشراء و8٫88 جنيه للبيع. وأمام نقص وجود الدولار نفسه في البنوك فقد إضطر البنك المركزي طرح نحو عشرين مليون دولار لتلبية طلبات المستوردين.. وذلك أمام توافر الدولار في السوق الموازية المسماة بالسوداء بسعر اقترب من أربعة عشر جنيها. المشكلة تتفاقم.. وأصبحت أزمة حقيقية أمام النقص الواضح في العائدات الدولارية بسبب نقص الإنتاج وتراجع الصادرات وقلة أو انعدام الدخل من السياحة لأسباب نعلمها جميعا.. وأيضا أمام تراجع تحويلات المصريين العاملين بالخارج الذين يتعرضون لإغراءات تحويل العملة في الخارج بسعر السوق السوداء جدا.. وكلها أسباب كفيلة بخلق تلك الأزمة. لذلك توقع الكثيرون أن يقوم البنك المركزي بتحرير سعر الصرف تماما وتركه للسوق الحرة وهو ما يعني تعويم العملة. و التعويم نوعان، الأول هو »التعويم الحر» ويعني أن يترك البنك المركزي سعر صرف العملة يتغير ويتحدد بحرية مع الزمن بحسب قوي السوق والعرض والطلب، ويقتصر تدخل البنك المركزي في هذه الحالة علي التأثير في سرعة تغير سعر الصرف، وليس الحد من ذلك التغير. ويتم الاعتماد علي هذا النوع من التعويم في الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة.. لكنه قد لا يكون مجدياً أو يمكن الاعتماد عليه في حالة مصر التي يعاني اقتصادها من العديد من الأزمات ولم تتحول بعد إلي دولة منتجة ترتفع صادراتها عن وارداتها. والنوع الثاني من التعويم هو »التعويم الموجه ».. ويقصد به ترك سعر الصرف يتحدد وفقًا للعرض والطلب مع تدخل البنك المركزي كلما دعت الحاجة إلي تعديل هذا السعر مقابل بقية العملات، وذلك استجابة لمجموعة من المؤشرات مثل مقدار الفجوة بين العرض والطلب في سوق الصرف، ومستويات أسعار الصرف الفورية والآجلة، والتطورات في أسواق سعر الصرف الموازية. المدافعون عن تعويم العملات يرون أن تحرير أسعار الصرف سينعكس ايجابيا علي الأساسيات الاقتصادية للدولة مثل النمو والرصيد التجاري والتضخم وأسعار الفائدة.. وسيقود ذلك بالتالي إلي إعادة التوازن للعلاقات التجارية وحسابات المعاملات الجارية باستمرار وبشكل آلي.. ويرون أن تحرير جميع الأسعار - أسعار السلع والخدمات، أسعار الفائدة، أسعار العمل (الأجور)، أسعار النقد الأجنبي (أسعار الصرف) - وترك تحديدها للأسواق من دون أي تدخل أو توجيه من الدولة.. يضمن دائما الوصول إلي حالة التوازن. ويبرر هؤلاء اقتناعهم بتعويم العملة قائلين إن أي عجز تجاري سيؤدي إلي طلب مكثف علي العملات الأجنبية، مما سيؤدي إلي انخفاض قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وبالتالي إلي تعزيز القدرة التنافسية للدولة.. وهذا كفيل، حسب قولهم، بزيادة الصادرات والحد من الواردات، فيعتدل بذلك عجز الميزان التجاري ويعود إلي حالة التوازن. والمنطق نفسه يعمل في اتجاه عكسي في حال وجود فائض تجاري. ويبرر هؤلاء لآرائهم بأن الولاياتالمتحدة تراجعت رسميا عن التزامها بتحويل جميع الدولارات المتداولة في العالم إلي الذهب، وفق السعر الذي تحدد عام 1944 (كل 35 دولارا أمريكيا يعادل أوقية من الذهب).. ومن وقتها انهارت قيمة الدولار مقابل الذهب ولم يصبح الدولار غير المدعوم بالذهب معيارا دوليا يحظي بثقة الجميع.. كما أصبح الحفاظ علي سعر صرف ثابت مقابل الدولار أمرا غاية في الصعوبة بالنسبة للعديد من القوي الاقتصادية في العالم، فبدأت باعتماد أنظمة صرف تترك بمقتضاها حرية تحديد قيمة العملات الأجنبية للسوق بناء علي قانون العرض والطلب. قد يكون قرار التعويم علاجا مرا.. له الكثير من الآثار السلبية علي الاقتصاد المصري بصفة عامة.. وعلي محدودي الدخل بصفة خاصة.. ولكن العلاج الأكثر نجاحا حتي ولو كان أكثر مرارة.. هو جذب العملة نفسها.. بخلق مناخ جاذب للاستثمار وليس طاردا له.. والقضاء علي البيروقراطية الطاردة.. والدخول في الاقتصاد العالمي بقدمين ثابتتين.. والاعتماد علي اقتصاد الإنتاج بدلا من اقتصاد الخدمات.. وتقليص الفجوة بين الصادرات والواردات. الحل هو العمل.. العمل.. ثم العمل.