عن ذاكرة اختفت خلف دقات الساعة.. تحاول خلايا مخه أن تجدها، يري وجهه في المرآة، وتزداد في عينيه حيرة الغريب لإحساسه المستعار من معاني الأشياء التي تحيط به ، ولكنه يحاول أن يمسك ظلالاً من الوقت الهارب ، تخترق العقارب جمجمته ، ربما تنجح في استعادة ما تواري في مكان ما من تلافيف مخه، أو تستطيع التقاط آخر معركة اجتازها! وعبثاً يحاول أن يلتحم مع جسده، كل شيء فارغ من محتواه كما رأسه ، عصب البصر يلتقط الصورة الوحيدة علي الجدار، الصورة التي تثبت أنه كان هنا من زمن مضي اعترف بوجوده. تهتز الصورة أمامه ، في تجربة للبوح عن تاريخ سمعه ممن حوله، هو ذاك عندما توقف الزمن ثانية في هذه اللحظة من الالتقاط الخالد للصورة . تدخل عليه المرأة البالغة من العمر خمسون عاماً، تحمل في يدها كوبا من الحليب، وتقول: كيف أنت هذا الصباح يا ولدي؟ أما زلت تنظر للصورة ككل يوم؟ أحاول أن أتذكر كيف ومتي؟ لا تقلق يا ولدي ستتذكر كل شيء ، الآن اشرب هذا الحليب. قلت لي أنك أمي ، وأنا خالد. هل أستطيع أن أشاهد شيئا من تلك المسيرات والمظاهرات التي قلت أنني كنت فيها دائما، من أول يوم خرجنا فيه؟ سيعود لك الألم والصداع ولن تكمل مشاهدتها كما هو في كل مرة! سأحاول التركيز هذه المرة علي ذاكرة من سجل الإعلام. كان يجمع قواه وأمله في التذكر ، والمشاهد تتوالي أمام عينيه.. ينتهي.. وكلما ينتهي مشهد سرد لتلك الاحداث ينتقل لآخر، منذ بداية المسيرات والاعتصامات ، والقنوات تعرض تلك الأحداث، الأصوات التي ترتفع بقوة، وتطالب النظام بالرحيل، كل تلك الأجساد المحتشدة بقوة ، والأيدي المتشابكة لأداء هتاف واحد. الشباب المحاصرون بالغازات ومسيلات الدموع، المصفحات التي تصد مسيراتهم وترش عليهم الماء الساخن لتفرق جموعهم. بدأت خلايا مخه تهتز قليلا، ترسم الأحداث بخطوط غير واضحة، تتوالي المشاهد، ويأتي يوم جمعة الكرامة، يتصاعد الدخان من خلف ذاك السور في الساحة.. يري الجمعة تحترق ،والحشود تتجه نحو الدخان الكثيف الذي بدأ يحجب الرؤية، بدأ صوت الرصاص يشق عباب الدخان ليحصد من كان حوله، من أعالي المنازل المحيطة بهم في الساحة أشخاص ملثمون، يحجبهم الدخان، يصوبون بنادقهم، نحو الشباب، اخترقت رصاصة رأس أحدهم ، يصيح بهستيريا .. تحتضنه أمه ، فينتحب بين يديها آآآآآآآآآآآآآه . لا تحزن يا ولدي إنه القضاء والقدر. سيأتي يوم تتذكر فيه. رغم أني لا أريدك أن تتذكر مما حدث شيئا. ما هذا يا أمي ؟ وما الذي حدث؟ لا بأس المهم أنك بين أحضاني بخير. يدخل غرفته بخطوات يحسب أثارها الماضية علي السجاد، هل كانت هذه غرفته؟ لا يحس بزمن ما في هذا المكان، هناك مكان آخر يراود ذاكرته الممسوحة. تمدد علي السرير بغربة رأسه المعتمة، ما معني أن يحيا الإنسان مرتين؟ مرة واحدة يستيقظ فيها ليجد أنه كان يحيا دورا ماضيا. هل هو العذاب ، هل كنت وسط تلك الجموع حقا؟ أين هم الآن ؟هل أذهب لأبحث عنهم؟... نعم.. قد أجدني هناك إن وجدتهم. يقوم باكرا قبل أن ينهض أحد، يرتدي ملابسه ، يتجه إلي الباب وهو يستذكر اسم الساحة التي رآها تلتهب بتلك الأحداث، يقطع الشارع يسئل عن مكان الحافلات التي يمكن أن تأخذه للساحة المطلوبة، يصعد برأس فارغ، الشوارع مزدحمة، لافتات عديدة منتشرة مكتوب عليها.. بالحوار الوطني نبني مستقبل اليمن... وعلي جدران أحد الشوارع مرسومة صور المخفيين وأسماءهم وسنة اختفاء كل واحد منهم. لا يدري لماذا فكر أن يجد صورته علي الجدار مثلهم، هو مفقود الآن عن نفسه، ولم يجدها بعد. تقطع الحافلة شارعا آخر، تقف دقائق جديدة أمام جدار أيضا، ما بال هذه الجدران توثق التاريخ الجديد؟ أعجزت الكتب عن توثيقه ، أم أن الناس سينسونه كما نسوا تاريخ من أريقت دمائهم من قبل، هو الجدار يرثي ببؤس رسوما لضحايا .. بعنوان" ضحايا حادث العرضي" رسوم لشخصيات كانت تعمل في مستشفي العرضي أطباء وممرضين وجنود. كل ما يراه الآن يحتاج إلي تفسير، تسير سيارة مُعلّقة وراءها صورة شهيد، "وباص" صغير قد ألصقت علي أحد جوانبه صورة شهيد آخر، والعديد من صور الشهداء متفرقة علي الجدران وعلي أعمدة الكهرباء. يتوه بين الشوارع وبين صور الشهداء والضحايا والمخفيين ، ويصطدم بجسر ما زال العمال يبنونه، مكتوب علي لافتة كبيرة بجانبه" جسر الشهيدين......و......." وفي الميدان الفسيح الذي شهد حصار السبعين يوما لأجل الجمهورية، يعرض علي الجدار المقابل للمنصة صور شهداء مجزرة السبعين، وقد نُصّب أمامهم تذكارا لتكريمهم. ما لهؤلاء الشهداء في كل شارع ومكان؟ شهداء ماذا؟ ألست من اليمن، ألا تدري؟ بلي.. ولكني فقدت ذاكرتي. مستغربا" آها وكيف فقدتها؟ يقولون أني تعرضت لحادث أثناء المظاهرات الشعبية. ألا تتذكر شيئا وأنت كنت بينهم..؟ هؤلاء الذين تسأل عنهم.؟ لا أتذكر . سبحان الله... هؤلاء كلهم ضحايا الثورة قبل ثلاث سنوات وبعدها من أحداث متوالية من اغتيال وإرهاب وتصفية. وأنا أحد ضحاياها أيضا. ولكني الآن موجود وزمن آخر يعيد تكويني. هو الأفضل لك. حتي لا تتحسر علي ثورتكم التي أشعلتموها. ألست ثائرا مثل باقي الشعب. لا.. كنت أراقب فقط. وصلت الحافلة للساحة المطلوبة، التي كانت تضمُ الثائرين ، نزل ليسير بين شوارعها التي كانت ماتزال تحوي قليلا من تلك الخيام ، أحس بغصة في حلقه، فهبت رائحة المكان في أوردة دماغه، بدأ يشعر بصداع غريب، استمر في السير، ملصقات وشعارات أكثرها خضراء، تحمل كلمات" الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل" وقف يحدق فيها، ويسأل نفسه .. هل كانت الثورة ضد أمريكا واسرائيل.؟ أم أنها كانت ضد النظام الفاسد. ؟ وصل إلي المنصة فازداد الصداع ، وصور قديمة تتزاحم في رأسه أصوات الميكرفونات، والأناشيد تطرق بقوة، الأيدي المتشابكة، الهتافات العديدة الذي لم يميز منها شيئا، تمالك جسده حين شعر انه سيقع، أغمض عينيه، حاول أن يركز أكثر في التفاصيل، واصل السير ، يحس بيد تمسك به وأناس يسيرون معه، نحو ذلك الجدار، كان يراه والدخان يتصاعد منه بكثافة، صراخ الشباب ، هرولتهم نحو الدخان، وصوت الرصاص المنهمر من أعلي البنايات، أولئك الذين يتساقطون بجانبه، محاولتهم للصعود لتلك البنايات المحيطة بهم لمعرفة من يطلق الرصاص بتلك الوحشية علي رؤوسهم صدورهم، من أيدي قناصة ماهرين، لم يحس إلا بجسده يهوي من فوق البناية التي صعد إليها ، وتلك الأيدي التي تحمله وأصوات تغيب عن وعيه. بدأت الدموع تنهمر من عينيه، وهو يري الآثار المتبقية، جثا علي ركبتيه أما م النصب الذي شيد مكان الجدار رافعا رأسه نحو صور الشهداء عليه، يقرأ اسماءهم، وحين رأي صورته بينهم تجمدت عروقه. لكنه الآن يري حشدا آخر يضم أسر هؤلاء الشهداء، يهتفون بحقوقهم التي وعدت بها الحكومة الجديدة، والأخذ بثأرهم من القتلة، يري والدته بينهم ،وهي تحمل صورته، باكية في حرقة، يحاول أن يصل إليها، أن يخبرها أنه هنا، في وطنه وأصدقاءه. يحاول أن يصرخ، ولكن لا جدوي، فقد استشهد الوطن هو أيضا. وخلف تلك الدموع والصور. كان يصرخ فقط ... قائلا: أمي أرفعوا صورة هذا الوطن الشهيد.