قراءة عمل ملحمي مثل رواية "المختلط" للكاتبة داليا أصلان بحاجة لتركيز عال، ليس فقط لتعدد الشخصيات ولا للمدة الزمنية التي تسرد الكاتبة خلالها الأحداث والتي تقترب من المئة عام، بل أيضا لتأمل الأسئلة المطروحة علي لسان الأبطال داخل النص السردي. تلك الأسئلة التي تنبش الموروث في ثقافتنا الدينية وأفكارنا السياسية وتفضح نظرتنا للآخر. تقدم الكاتبة في روايتها المكتوبة بتقنية الراوي العليم، تبدأ بتاريخ عمارة المختلط، وبداية إنشاء الحي الذي سمي بهذا الاسم لأنه أرض محرمة علي المصريين ومخصصة للأجانب المقيمين في مدينة المنصورة. من هنا جاء عنوان الرواية للاحتفاء بالمكان خاصة و بمن عاصروه بشكل عام. المثير بالنسبة لي هو طرح داليا أصلان لأسئلة تخص الهوية الدينية وتأثيرها علي الإنسان في شخصية "فهمي" وهي الشخصية الأكثر تميزا بالنسبة لشخوص الرواية "فهمي صنو ذلك الجيل، الصبي الأشعل الذي أتي من المجهول ليصبح طرفا في حياتنا ونصبح صلبا في حياته". هو الطفل الذي دارت حوله الأقاويل وظل حتي توفي شخصا محبا للحياة رغم كل المصاعب والأهوال التي مر بها منذ طفولته. كان ينتمي لطائفة "شهود ياهوه" وهي طائفة مسيحية غير مرغوب فيها من قبل الطوائف المسيحية الآخري. ظل فهمي يتعامل بإنسانية ومحبة دون أن يعرف كيف يعبد الله. وهنا طرحت الكاتبة سؤالا أظنه محوريا في الرواية "ألا يمكن لمرء أن يعبد الله ببساطة؟ سؤال بسيط بلا إجابة، لأنها لو جاءت ستأتي كبيرة." ومن نفس المنطلق طرحت فكرة قبول الأخر مثل العبارة التي وردت علي لسان "عفت" مستقبلا مصطفي العائد من إيطاليا "الحمد لله ربنا نجاك من البلاد النجسة يا آبا الحاج". فالأغلبية المسلمة في مصر تري أن عبادة الله ومحبته لابد وأن تكون علانية، في حين يرفضون إعلان اصحاب الديانات الأخري"البهائية" نموذجا لطقوس عبادتهم، "لماذا لا تسألوننا عندما نبلغ الرشد، أتحبون هذا الدين الذي اخترناه؟" حتي تصل بنا الكاتبة لإعلان الفكرة الأكبر والأشمل في روايتها، "خانة الديانة مالهاش لازمة ف ورقنا." لم يكن الطرح لفكرة حرية الإيمان والعقيدة هي الركيزة الوحيدة للرواية ، بل التغير الاجتماعي والسياسي الذي حدث بتغير الأنظمة والحكام. فالرواية التي بدأت بعام 1920 ناقشت من خلال أبطالها النظام الملكي، الثورة، الهزيمة، النصر، عصر الانفتاح وهكذا. ففي صفحة 189 ستقرأ حوارا سياسيا بين صلاح وأخيه شهدي عن الهزيمة والحالة النفسية السيئة التي اصابت أفراد الجيش خاصة والشعب المصري بشكل عام "عمي يبكي، الرائد محمد صلاح الدين مصطفي جلالة. ربت أبي علي كتفه وقال: "بالراحة علي نفسك يا صلاح" فأجابه عمي ولم يرفع رأسه من بين يديه: "راحة يا شهدي؟ ده احنا سلمنا العساكر لليهود تسليم، أنا شفت الطيران بيحصدهم زي الجراد، جيش بحاله ف صحرا مكشوفة بيموت أودام عيني ف لحظة، قائد خاين ولأول مرة يجد أبي نفسه مدافعا عن ناصر ولو من وراء قلبه، يريد استعادة أخيه، فقال: "لأ، يمكن طموحه أكبر من قدراته، مغرور زيادة، بس مش خاين.. انت عارف اني ما بقعدش لخطبه، بس ولامرة سمعته فيها حسيت انه كداب، ارجعوا شغلكم وحاسبوه من هناك يا صلاح، خلوه يصلح أغلاطه". حملت فصول الجزء الأول من رواية "المختلط" اسماء الأبطال مثل الفصل الأول " أحمد جلالة" وهو ما ذكرني برواية نجيب محفوظ " حديث الصباح والمساء" رغم اختلاف طريقة السرد. فالكاتبة استخدمت الاسم كأداة لربط الأحداث التاريخية بالأشخاص الذين عاصروها، بينما استخدمه محفوظ لبناء رواية علي أساس الترتيب الأبجدي لأسماء الأبطال بغض النظر عن ترتيب الأحداث والأزمنة. ومن خلال هذه التقنية تنتقل الكاتبة من من قصة لأخري استنادا علي أرضية المكان " المختلط" الذي مهدته له منذ البداية. "أنظر إلي الحجر الأصفر الكبير الموجود في قمة القوس،1920 ، المدخل، سلم الخدم، شجرة الخروع، عريشة العنب الذابلة خلف نافذة جدتي، النخلة. سأعيد تدوير الحكاية. ألصق قطع الأحجية الكبيرة متجاورة، ألخصها في رأسي، في عمري هذا، بترتيبي." تتميز اللغة في رواية "المختلط" الصادرة عن دار الثقافة الجديدة، بالمشهدية والقدرة علي وصف الأماكن ورسم الشخصيات بملامح يكاد القارئ أن يراها أمامه. "فتحت الشابة كاميليا الشُّراعة، شعرها كستنائي خفيف والشريطة متوسطة العرض بيضاء تقسمه لغرة قصيرة علي جبهتها وشعر منسدل فقط حتي الكتفين، اللذين كانا مكشوفين لأن فستانها بلا أكمام." استطاعت الكاتبة داليا أصلان في روايتها الأولي أن تخلق عالما يأخذنا عبر الزمن وينقلنا من القديم إلي الحديث والعكس من خلال العلاقات والصراعات المثيرة بين الشخصيات فدعمت حكايتها وزادتها بهاء.