يطل علينا الكاتب مصطفي البلكي من شرفة التاريخ في روايته الأحدث "نفيسة البيضا" متناولا قصة حياة "مارية" ابنة المراعي المولودة في جورجيا التي صارت "نفيسة البيضا" سيدة مصر وأم المماليك بعدما تزوجت علي بيك الكبير. قصة صعود وهبوط ممتزجة برائحة الزمن البعيد نكتشف فيها الظروف السياسية و الحالة الاجتماعية لمصر في القرن الثامن عشر. النص السردي في هذه الرواية ليس سهلا أبدا، حيث اعتمد البلكي تقنية الراوي العليم ليتمكن من الغوص في الحالة النفسية لشخصيات روايته. كما لجأ للجمل الحوارية بين الأبطال وأحاديث النفس التي تدور في نفوسهم مثل النصيحة التي وجهتها "مهرة" الجارية الأقدم في بيت علي بِك الكبير أثناء حديثها مع "مارية"، "جسدك هو حصنك الأول، استمدي منه قوتك، به تستطيعين أن تواجهي العالم لو كنت ترغبين في البقاء، وحتي يتحقق ذلك، لا بد أن تنسجمي معه، تحبيه تماما كاسمك الجديد." قراءة رواية ك"نفيسة البيضا" تحتاج من القارئ الانتباه طوال الوقت ولا يعتبر أنه أمام نص للتسلية بل هو عمل شديد الصعوبة بسبب الانتقال المباغت بين الشخصيات والأزمنة ربما يصيب القارئ بالتشتت. كما أن ذكريات الأبطال حاضرة بقوة في مشهد حاضرهم "الذكري الكاملة القمر المستدير في بدر تمامه، يسحر". فكل من تم بيعهم من جواري وعبيد ولدوا أحرارا. ف"مهرة" علي سبيل المثال أعطاها والدها لنخاس مقابل مال علي أن يرده خلال شهرين، ولأنه لم يفعل تحولت من إنسانة إلي سلعة تباع. و"مارية" كانت ترعي في وطنها حين لمحتها أعين النخاسين واعتبروها ثروة لا يمكن تركها لأي سبب حتي حين قالت لهم إنها وحيدة أمها. كان علي أبطال الرواية أن يعيشوا باسم للحاضر واسم للماضي، فغيرت "مهرة" اسم "مارية" إلي "نفيسة" حين تعجبت الأخيرة قالت لها "مهرة" إن "علي بِك الكبير" كان يدعي "يوسف". وكأن حياتهم أبت أن تكتمل في طريق واحد، فصاروا يحملون ذكرياتهم في الروح بينما يعيشون بالجسد واقعهم الحالي. الرواية مكتوبة بلغة ثرية طعمها كاتبها ببعض الكلمات المتداولة في هذه الحقبة الزمنية، يتميز النص بالمشهدية. كما كانت المفردات الموسيقية حاضرة بقوة في بعض الحوارات الدائرة بين الشخصيات "تقي" مع "مهرة"، "هناك حيث كل شيء مدموغ بالممكن، نرقص رقصة تخصنا، فاللحن أصبح مناسبًا لأجسادنا، والوسيط وهمزة الوصل صالحة للاستعمال." وحديث "مهرة" مع "نفيسة"، "أحيانا يا نفيسة، تنادينا أرواح قريبة منا، فلا نسمعها، كل هذا لأن في داخلنا نغمات أخري تريد أن تعيدنا ألف خطوة للخلف، وقتها مصارحة النفس لا بد منها، ولا يكون هذا إلا بحض النفس علي الابتعاد عن الماضي." الحب لعبة صعبة خاصة في حياة الباحثين عن السلطة والنفوذ، فبالرغم من حب "مهرة" ل"علي بك الكبير" سعت من أجل تحقيق أهدافها أن تزوجه من "نفيسة" أو كما أطلقت عليها حين رأتها في سوق خان الخليلي أول مرة "المرأة الحلم". قبلت نفيسة هذا الزواج بالرغم من عشقها ل"مراد". "رغم أنك معتوقة سيدك، وزوجته، ما زالت روحك تحن إلي ما كان، منحتِ جسدك لسيدك، وبقيت روحك ملك الأمرد." تظل الرسائل التي تبادلها العاشقان "مراد" و"نفيسة" من أعذب وأرق المقاطع في الرواية. لم تكن "مارية" أو "نفيسة البيضا" مجرد راعية غنم ساذجة، بل سيدة قوية صاحبة عقل راجح. يبدو ذلك جليا في مواقفها مثل حديثها مع "علي بك الكبير" عن إدارة الحكم وألاعيب السياسة نصحته أن يحجم طموحه في الحكم وأن لا يأمن لأحد حتي ابنه أبي الدهب وأشارت له أن ملوك الغرب يحجمون أبناءهم إذا ارتفع شأنهم كي لا يتعجلوا ميراث عرش آبائهم. كذلك في حديثها مع زوجها الثاني وحبيبها "مراد بك" عقب هزيمته من الفرنسيين " فالتاريخ يا عزيزي لا ينسي، ولا يغادرنا، ونحن في مكان حط القدم نراه جليا، لا لبث فيه." رغما عما وصلت إليه "نفيسة" ظلت روحها تشتاق للوطن وتحن للماضي، أن ترعي الغنم، أن تعود أحلام الصبا بفتي يبتسم لها ويعطيها بحب وردة. "نفيسة البيضا" رواية امتزج فيها خيال مصطفي البلكي بقصة حقيقية وحقبة تاريخية شديدة الأهمية في مصر، بين صراع المماليك علي الحكم، الدولة العثمانية وصراعها مع الحملة الفرنسية وقائدها بونابرت، ثم وصول محمد علي باشا للحكم. استعان الكاتب لجمع المعلومات بمصادر عدة مثل موسوعة عبد الرحمن الجبرتي " عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، كتاب نجيب توفيق "أم المماليك" وكتاب جمال الغيطاني "ملامح القاهرة في ألف سنة". صدرت الرواية عن دار سما للنشر والتوزيع بالقاهرة.