تُعلِّق عينيها بالسقف، جِلسة استرخاء بنهاية يوم عملٍ شاق.. تضع لها العاملة المقعد بجوار باب الغرفة المواجه للدَرَج . دائماً ما تُردِد أن العمل لا ينتهي، هنا وفي البيت.. تُصّر علي إطعام أحفادها من طبخ يديها، تحكي باستفاضة إبداعات مغامراتها في المطبخ، من أجل ترك بصمة غذائية في أجهزتهم الهضمية الغِضة، للحفاظ علي صحتهم . تصارع مطاعم الوجبات الجاهزة بإعلاناتها المُبهرة، قِطع مُحمّرة تقرمش مع الموسيقي ورقص الجميلات وفرقعة زجاجات مياه غازية ملونة. لا تكُف عن مهاجمة أمهات هذه الأيام المتكاسلات ومستسلمات لدلع الصغار وحفظهن لأسماء المطاعم وألوان الوجبات، مثل العيال. تكسب معركتها ثم تستلقي "سطيحة، كما تقول معبرة برأسها وعينيها" وحيدة بعد مغادرتهم مع ذويهم إلي منازلهم القريبة وقد امتلأوا، ولا ينسوا الاتفاق علي قائمة طعام المرة القادمة. يصاحب ذلك تفاصيل عن آلام الظهر وزيارات للأطباء، مع مقارنة بين مراتبهم العلمية وعلاجاتهم. يتشاغل عنها بفتح درج الملفات القديمة، بينما تقود بحماس حلقة المتاعب والآلام مع زميلتيها في غرفتهم الضيقة. لا يتمكن من مغادرة مكتبه لانهماكهن في الشكوي، مستئنفات أطراف حكايات تركنها بالأمس. تظهر رأسه ببطء صعوده المتمهل للدَرَج، يذكِّر نفسه كل صباح بأيام أن كان يصعده قفزا.. ليلحق بالإفطار الصاخب مع الزملاء القدامي في الطابق الأعلي، قبل أن يترقي لينفرد هنا في هذه الغرفة الضيقة، ومكتبه المحشور في عمقها مع السيدات الوكيلات. مرات قليلة تلك التي يُفلِح فيها من الافلات قبل التئام شملهن في منتصف النهار -ساعة القهوة- وإلا فعليهِ تحمل الجزء التالي من حديث الشكوي من العيال وآبائهم، ومراوغاتهم التي لا تنتهي. تنخفض أصواتهن فجأة وتلتقي رؤوسهن .. فيرفع من صوت الأغاني التي يصبها المذياع القديم، ليشيع لهن جوْ من الاطمئنان، لكن دائماً ما تفلت من إحداهن نظرة خاطفة.. غالباً ساخطة، وأحياناً تكون غامضة، سارحة.. تحولها بسرعة إلي دهشة، مع ضحكات خفيضة وطرقعة للأكُف، ثم تعود رؤوسهن إلي الالتقاء والهمس. لاتزال رأسها مائلة للخلف، تستند إلي الجدار.. عاقدة ذراعيها علي صدرها، لا ترتدي أسود الحداد اليوم.. خلعته!!، تبدو في ثوب وردي رقيق له لمعة وظلال لاتخطئها العين الضعيفة، أدركته ذاكرته.. فعلاً، هي تخلصت من السواد منذ وقت قريب.. لكن لماذا يتأملها خِلسة، هل اللون؟ يقنع نفسه بأن خروجها من الشرنقة السوداء هو ملمَح فني يثير الدهشة في تكوين جمالي نادر للوحة غريبة، تستمد جمالها من تناقض بين لون موجود بظلاله، وآخر مختفي.. ضحك في سرِه، فالآخر المختفي باقٍ في رأسه هو. منذ عدة أيام، كانت تردد في همس مسموع في جلستهن الصباحية "هو له في ذمتي سَنَة، الله يرحمه، بعد كده الأسود ده له أصوله.." وكمَنْ صار حُراً، راحت تحرك ذراعيها حول رأسها، تصاعدت ضحكاتهن، لم يتمكن من إغماض أذنيه، فانهمك في البحث في أدراج مكتبه برأسه خفيضاً، يغالب ضَحِكُه.. يبحث عن أشياء ضائعة منه، غير موجودة أصلاً. يُلجِم لسانه بقسوة عن حكايات لمارلين مونرو مع اللون الأسود.. تحفظها السينما، ورأسه، مثيرة.. للبهجة. تدخلت الفِطرة لتشعُرْ بنظراتِه القلقة، تجوس هنا وهناك.. بتبريرات دهشة غامضة وقد قارَبَ نهاية الدرج أمام الغرفة. اعتدلت تحك عينيها بكفيها، تبتسم في حَرج، بادرها بصوت خفيض "خليكي مرتاحة.. زي لوحة الجمال النائم".. تدافعت دفقة دماء تشع حرارة إلي وجنتيها.. استغرب انفلات الكلمات من فمه، فالتفتَ مسرعاً لينفذ إلي مكتبه، لا تفارقه ابتسامتها المريحة.. وردية أيضاً. تلفتَ حوله، الزميلتان جالستان، صمتتا.. تنظران إليه، سألته إحداهن عن سبب وقوفه هكذا حاملاً كل هذه الملفات، داري ارتباكه بالجلوس في مقعده، يتعلل بأنه مُتعب اليوم، وضع الملفات علي المكتب واستدار ليواجههما. تشعره نظراتهما بأن في ملامحه شئ ما . كسر الصمت دخولها، مبتسمة، تُرجع مقعدها إلي مكانه، تسدد عينيها إليه، تتسع ابتسامته بينما تتساءل عن سبب هذا الصمت.. شعر أن السؤال موجه إليه، فأدار مفتاح المذياع لتنطلق ثومة : نظرة وكنت أحسبها سلام.. وتمُر "أوام".. لم ينتبه إلا وهي تضع فنجان القهوة أمامه، تنظر في عينيه قائلة "صوتك حلو، بس الأغنية خلصت من بدري،وقرّبنا نروّح"، تضحك بخفة. إعتدلت بمقعدها تواجههما، قبل أن تلتقط نظرة الشكر .. راحت تحكي عن طبيخها للعيال اليوم. يحضر مبكراً -قَبلِهن- لتجهيز ملفات عمل اليوم، وارتشاف فنجان قهوة الصباح مع تصفح سريع للصحيفة اليومية، قبل أن يخبئها في درج مكتبه. تركزت عيناه علي صورة ذلك التمثال الضخم لمارلين مونرو، يحتل نصف صفحة في مناسبة مهرجان سينمائي يترقبه العالم. أقاموا التمثال لتبدو حية متألقة في لقطة استعراضية، تقف علي ساق واحدة في حذاء بكعبِ عالِ دقيق، بينما الأخري مطوحة للخلف في فستان أصفر قصير، تنتثر عليه زهور دقيقة ملونة. كتبَ المُعلِق أسفل الصورة أن بالتمثال الرائع قنوات دقيقة بوصلات تطلق الهواء ليطير الفستان، كما لو كانت تواصل الرقص. تحيط به جماهير المهرجان ونجومه في الميدان حول مقر اللجنة المنظمة والبساط الأحمر ممتد. زفرَ زفرةً حارة قبل أن يطوي الصحيفة، يدٌ امتدت من خلفه.. صوتها يرجوه التمهل مع تحية صباح خاطفة، ترك لها الصحيفة واستند إلي ظهر مقعده، يرقبها، تتمتم بأخبار المهرجان. اعتدلت تواجهه، تبرق عيناها وهي تصف افتتاح المهرجان ليلة الأمس. انفلتت الكلمات من عقالها تصف مارلين وهي ترتدي السواد، كأرملة في فيلمها الشهير،تصف القفازات الناعمة طويلة سوداء لامعة، جيبونة الفستان الأسود القصير، والقبعة بالتُلْ المنسدل يخفي دمعة واحدة تتدحرج بهدوء.. ترقبه صامتة وهو يحكي، ينظرإليها، هزّ رأسه مستئذناً ليطوي الصحيفة، يخفيها في الدرج، محظور قراءة الصحف أثناء العمل.. كانت لاتزال واقفة، فتح الدرج ليتشاغل بالبحث عن هذا الشئ غير الموجود في أدراجه. عادت مسرعة قبل استراحة القهوة، وقبل أن يروغ من ركنه في الحجرة، تستأذنه بإلحاح ولهفة لتلقي نظرة علي الصحيفة.. تلفتَ حوله، يشعر بالحرج، قالت له هامسة "قبل ما يرجعوا بسرعة"، أخرج لها الصحيفة، تلمّسَت بأصابعها بخفة صفحة مارلين.. ألقت نظرة سريعة علي بضعة سطور في ركن الصفحة، أطبقتها ونظرت إليه.. بدا كأنها ابتلعت كلمات كانت علي طرف شفتيها، ثم غادرت مسرعة إلي صديقتيها. فتح الدرج ليخفي الصحيفة، تري ماذا يلفت النظر بجوار مارلين ؟ ضعفت مقاومته، فأخرج الصحيفة خلسة، وضع العدسات علي عينيه يزحف إلي نفس الركن من الصفحة. تعرض دار السينما العريقة في وسط البلد الفيلم الشهر لمارلين مونرو منذ عدة ليالٍ.. والليلة هي الأخيرة. لا يعرف متي طوي الصحيفة وأخفاها في مثواها بالدرج. نفس دار السينما ونفس الفيلم.. وكل هذه السنوات، هل سيجروء علي الذهاب إلي السينما وحده ؟ يتقاعس أولاده في الحصول علي نسخة من الفيلم تحمل له ذكرياته مع أمهم.. لديهم حُجَج كثيرة للاحتفاء بأولادهم، فلا وقت لديهم.. والليلة هي الأخيرة. قال لنفسه في طريق العودة للمنزل "أرتاح شوية، ولا داعي لمتاعب تجهيز الغداء، كفاية ساندوتش في المطعم القديم بجوار السينما.. زي زمان". يراقب شباك حجز التذاكر، الجمهور قليل، فلا إقبال علي أفلام الأبيض والأسود، راح يتأمل الصور الفوتوغرافية لمناظر من الفيلم، معلقة في بهو السينما.. يلح عليه تساؤل متي -أثناء هذه الصور- كانت لمساتهما أثناء عرض الفيلم، منذ تلك السنوات الطويلة، والحديث الذي دار بينهما، كان يشغله ليلتها كيف سيودعها إلي منزلهم في الليل، وماذا ستقول لأمها. أصابع بأظافر دقيقة راحت تدق علي كتفه، وصوت ضاحك يرجوه بخفة: ممكن تحجز لي تذكرة معاك؟؟