كانت وجوه الممثلين في الفيلم شابة، وأجسادهم نحيفة. عكس الصورة المألوفة التي رأيتهم عليها في أفلام الأبيض، والأسود المتداولة. لعل الفيلم من كلاسيكيات السينما المصرية في أوائل الأربعينيات. جلسنا علي كراسي الأنتريه نتباري في معرفة كل ممثل، والملامح التي ظلت ثابتة معه طوال العمر، والأشياء التي تغيرت.. هذا "عبد الفتاح القصري". نحيف. يرتدي بذلة رمادية غامقة، وكرافت مقلم أبيض في أسود. هذا "إسماعيل يس" في جلباب بلدي. يتحرك كالبهلوان. نحيف جدًا _ أيضًا _ في بداياته الأولي في التمثيل. أبرز ما فيه رقبته الطويلة، والبله الطازج في وجهه المراهق. هذا "محسن سرحان". شاب ناضح بالشباب الفتي. هذا "محمود المليجي". صورة مختلطة من النزق، والطيبة. هذه "زينات صدقي". تظهر في دور بنت الحارة التي تطاردها المغازلات، ويطوحها الدلال يُمنة، ويُسرة، هؤلاء العجائز بأدوار ثانوية في الفيلم. لا أحد منا يعرفهم. هذا الطفل.. هذه الطفلة... الفيلم قديم، لكن الصورة ما تزال نضرة. لعله كان تجربة سينمائية شابة لمخرج جسور في ذلك العصر. لم أر تترات الفيلم الأولي. ما عرفت اسمه، ولا أحد منا استطاع التأكد من اسم الفيلم من ذاكرته السينمائية المحدودة، والقناة التي تعرضه في السهرة لم تضع فواصل إعلانية، فنعرف اسم الفيلم وهو يعود مرة أخري إلي العرض. ما من فرصة إلا للمتابعة الشيقة التي تكشف شباب ممثلين أحببناهم علي صورة ثابتة في كهولتهم. فرحة الظهور للمرة الأولي علي الشاشة واضحة فوق الملامح الحادة التي لم تُهذب بعد، والحركات السلسة الحميمية، حتي إن عيني أحدهم كانت تنزلق بلا حذر علي صدور الراقصات وهو يغمز لهن، أو يحتك بهن احتكاكًا عفويًا فجًا لا يمكن أن يكون جزءًا من السيناريو. جميعهم الآن موتي. ذكرنا بذلك صديق مكتئب. كان يلح علي تغيير القناة؛ لأنه لا يحب الموتي. قلنا مداعبين في نفس واحد: والأطفال في الفيلم عبروا السبعين. لعلهم _ أيضًا _ موتيَ. كانت نهاية الفيلم حفلاً كبيرًا ضم الأخيار، وبعض الأشرار بين المعازيم. الشرطة في زيها الأسود تحاصر المكان من الخارج؛ للقبض علي المجرمين في الوقت المناسب. من القلب ترفرف الضحكات كالحمام الأبيض. أما النظرات فموزعة علي كل شيء بالتساوي. أغنية الحفل كانت عن حب الحياة، والمرح، والانطلاق. الراقصات أنفسهن كن ينقلن المعني باحتراف، وإثارة. هم الآن علي الشاشة، وخارجها. في كل مكان حولنا. في الزهور المتوهجة في الأصص الخزفية علي البلكونة. في الهواء الذي نستنشقه. في الغناء، والمرح الذي يشعرنا بدبيب الحياة في جلستنا الصامتة المترقبة. في وجوهنا، وملابسنا الملطخة بغبار أجسادهم التي أصبحت جزءًا من الأرض، والهواء. أمسحهم عن وجهي، فيعلقون بأصابعي. أدفع نفسي إلي التخلص من تلك الأفكار الغريبة التي بثها فيَّ صديقنا المكتئب؛ حتي أستطيع الاستمتاع بمشهد الحفل الأخير مثلما يستمتعون بالضبط . لا أستطيع. أحاول أن أتحرك من مكاني، فلا تطاوعني قدمي التي لم تكن تتحرك إلا في اهتزازة راقصة عفوية مع دخول جميع ممثلي الفيلم في الرقصة الأخيرة.