شئنا أم أبينا؛ فقد فرضت الدراما التليفزيونية وطقوسها المتغيرة خلال شهر رمضان المبارك، وزادت تنوعا بعد ظهور القنوات الفضائية في عموم الوطن العربي، ولكنها وللأسف، ومع كثرتها تقل قيمة وقدرا، وكأنها امتطت منحي الهبوط في السنوات الأخيرة، ولم تعد مبررات صناعها مقبولة؛ طالما ابتعدوا عن الموضوعية في البحث عن سبل لتطوير الدراما دون تشويه تاريخها وهدمه، ومحاولة محو سطورها البارزة باستنساخ بعضها مهلهلا بلا فكر أو روح. شهدت القنوات التليفزيونية العربية من المحيط إلي الخليج هذا العام ما يزيد عن ستين مسلسلا يصعب إن لم يكن من المستحيل متابعة ولو خمسها معا، وترك لكل مشاهد حرية اختيار طريق خاصة لينتقي بعضها ما يشاهده، وإن بدي الأمر بالنسبة لي أكثر سهولة بفضل صناع الدراما أنفسهم الذين تطرفوا بأعمالهم وغاصوا في عوالم الجريمة بمختلف أنواعها، ولهذا كان يكفي أن أشاهد الإعلانات الدعائية لأنحي جانبا مسلسلات »البلطجة والجنس» إلي جانب الأعمال الخليجية والقليل القادم من بلاد المغرب العربي والذي اقتصر عرضه في قنواتها لأسباب تتعلق بصعوبة اللهجة إضافة إلي أن الأعمال العربية الأخري التي جذبت العديد من نجوم المغرب العربي وجماهيرهم. والخطوة التالية تمثلت في متابعة الحلقات الأولي لما تبقي من أعمال، وقد عاب الكثير منها للأسف الشديد الغموض والعشوائية دون ضرورة درامية، الذي بدوره يمكن أن يتسبب في ابتعاد الجمهور عنها، ولهذا فلا يمكن أن أجزم أن ما تابعته هو الأفضل، فربما تكون البدايات غير جيدة، ولكن العمل في مجمله جيد، ولكن كثرة الأعمال لا يعطيك رفاهية المغامرة مع بداية غير جيدة، وكانت الصدمة الأولي بالنسبة لي خروج المسلسل التاريخي المنتظر «الشاه والسلطان» من الخريطة وعدم عرضه لأسباب مجهولة. وقبل أن أتوقف عند الأعمال التي اخترت أن أتابعها، فهناك بعض الملامح التي يجب أن نعرج إليها، وفي مقدمتها الضعف الواضح في عموم النصوص الدرامية وما تناقشه من أفكار، ولا يمكن اعتبار هذا العبث والعشوائية تطويرا، فالتطوير لا يعني هدم القواعد وأركان الدراما الأساسية، إلي جانب أن المشاهد العادي يمكنه أن يلمس قدر التفكك في البناء الدرامي، والتحسر علي ما وصل له حال الدراما التليفزيونية، خاصة وأنه من المفترض أنهم يخصون الشهر الكريم بالأفضل. ورغم تميز بعض المقدمات وتصميماتها إلا أن لجوء البعض للاقتباس من الأعمال التركية، بل والشهيرة منها أفسد الأمر، خاصة مع تكرار استخدام ذات الفكرة المنقولة وكأن منبعها واحد، بما ينم عن أننا نواجه أزمة إفلاس في العقول المفكرة والأمر ذاته وربما اسوأ في الإخراج، ولكن هذا لا يمنع أن هناك بعض الأعمال التي أفلتت من ذلك بفضل مبدعيها، ومنها علي مستوي تصميم المقدمات مسلسلات «ونوس»، «الميزان»، «راس الغول»، «صدر الباز»، «أحمر»، وعلي مستوي الإخراج مثل «سمرقند»، «ونوس»، «طوق البنات3، و»أحمر». كنت أعتقد أنني سأواجه مشكلة كبيرة في اختيار ما سأتابعه من الأعمال السورية، ولكن العديد منها وللأسف الشديد انجرف خلف موجة «البلطجة والجنس» المصرية التي بدأت منذ سنوات واستفحلت وأخذت تجور علي غيرها من الأعمال بفرض القنوات لها في أفضل مواعيد ممكنة؛ بعيدا عن مواقيت الصلاة والقيام، بينما يشقي كل متفرج يبحث عن عمل بعينه يمني النفس أن يكون جيدا حتي ييأس، والغالبية لن تذهب للبحث عن ترددات قنوات أخري لم تعتادها لمشاهدة ما ترغب أو ما سبق اختاريه بعد مشاهدة مادته الدعائية. وغلب علي الأعمال الدرامية العربية بشكل عام والمصرية بشكل خاص تضمنها قيما مغايرة لقيمنا المرتبطة بتاريخنا وعقائدنا وكأنها محاولة لفرض هذه التراهات والانحرافات باعتبارها تمدنا وتقدما، كتصوير الشخص القادر علي تحمل المسئولية والمقدر لمعني الأسرة والالتزام تجاهها؛ بأنه نوعية قديمة وبالية ومنقرضة من البشر، فهو ويا للمصيبة لا يجيد الرقص ولا التحرش بالبنات وللأسف يقدر العلاقات السوية ولا يستغل الفرصة لإقامة علاقات منحرفة مع هذه أو تلك، وكذلك كثرة المشاهد الطويلة التي تقوم خلالها الشخصيات بالتدخين والتلذذ به وخاصة الفتيات، وغيرها من الصور المقلوبة. كما بدي أن الكثير من صناع الدراما والمشاركين فيها بعيدين تماما عن عموم الجماهير، وأن الفجوة الطبقية بينهما كبيرة للغاية، وأن هناك قوالب ثابتة ومتكررة في الأعوام الأخيرة في مختلف الأعمال، وكأنها محاولة لفرضها رغم أن قطاع كبير من الجمهور لم يعد يصدق ما يساق، إلي جانب أن الكاتب الذي يتناول أدق تفاصيل عالم الفساد ودواخله إما أنه ضالع معهم فيها وهو أمر صعب للغاية لأنه بكل تأكيد كان ليخشاهم، أو أن هذه مجرد خيالات لا تمت للواقع بصلة. وللعام الخامس وربما السابع علي التوالي أو أكثر؛ غابت العلاقات الأسرية وقيمها عن الكثير من الأعمال وخاصة المصرية، واستبدالها بالخيانة والحقد والخداع، بل وجنح البعض منها إلي فكرة أن الأسرة الصغيرة والعائلة الكبيرة ووصل الأرحام مجرد أوهام وتقاليد بالية لم يعد لها وجود، بل وأنها كانت مجرد شكليات ولبس قناع سقط بمرور الزمن، وكأن الدراما لدينا توفر علي الأعداء جهدهم وتعمل علي تفتيت وحدتنا بالوكالة. كما ابتعدت الدراما الرمضانية هذا العام عن مناقشة أي من قضايانا الهامة الملحة عربيا ودوليا، في استمرار لحالة الهروب التي انتهجها صناعها في السنوات الأخيرة وحتي من حاول الاقتراب منها، تعامل معها بسطحية شديدة وإن حسب له شرف المحاولة، ولكنها لا تكفي، وتذرع البعض بأن الناس لا ينقصها هموم وتريد أن تجد بعض الراحة ولو قليلا، فهل ستنفعنا التخاريف والخواء الفكري يوم الحشر؟. ومن الناحية الفنية؛ فرغم تميز بعض العناصر في عدد من الأعمال، إلا أن السمة الغالبة هي الافتعال والمبالغة ولا يؤخذ عليها الممثلين فقط، ولكن مصدرها الرئيسي في النص وكذلك تناوله من قبل المخرج، بل وهناك من حاول منهم إنقاذ الموقف بخبرته قدر الإمكان، ويجب علي صناع الدراما في مصر تحديدا أن يراجعوا أنفسهم كثيرا، فهناك ترد واضح في مستوي ما يقدم نصا وإخراجا، والأمر لا يتعلق بالإعداد والتدريب، ولكن المواهب الحقيقية لا تجد طريقها، ولم يعد هناك من يحتضنها خاصة بعدما تم إبعاد الرواد وأهل الخبرة اعتقادا أنهم العائق أمام التطور!. ترك النجمان نور الشريف وخالد صالح فراغا كبيرا خاصة مع تساقط النجوم الكبار والانخفاض الحاد في مستوي ما يقدمون من أعمال، وإن حاول محمود عبد العزيز التشبث بقارب نجاة حافظ به علي بعض من مكانته وتاريخه، وعاد يحيي الفخراني يسطع من جديد في دور مغاير أثار شغفه ووجد فيه مساحة مناسبة ساعدته علي التميز كما دعمه مجموعة المواهب التي شاركته العمل وعلي رأسهم نبيل الحلفاوي وهالة صدقي. حتي نجوم السينما في مطلع الألفية الجديدة، الذين تحولوا من الشاشة الكبيرة التي تأزمت أحوالها إلي الدراما التليفزيونية؛ فشلوا في ترك بصمة حقيقية حتي الآن، خاصة بعدما لجأ البعض منهم إلي إعادة استنساخ أعمال سينمائية قديمة، فكانت النتيجة مخيبة للآمال، ورغم هذا استمروا في ذات الاتجاه، وكانت الجريمة الأكبر هذا العام من وجهة نظري في العبث بواحدة من أهم علامات الدراما المصرية البارزة «ليالي الحلمية»، بإدعاء عمل جزء جديد لا يمت له بصلة فكريا أو فنيا، فلم يبقي منه سوي صوت محمد الحلو المميزة في مقدمته ونهايته، ولأن الشيء بالشيء يذكر؛ فقد استمتعنا بصوت آدم في الدراما المصرية والسورية، وكذلك صوت كل من «مروان خوري» في الدراما اللبنانية «مش أنا»، و»فضل شاكر في مقدمة «رأس الغول» ولو جاء متخفيا. حاولت أن أتابع كل الأعمال التي انتقيتها لك عزيزي القارئ منذ بدء الشهر الكريم، المصرية منها والسورية واللبنانية، بداية من مسلسل «ونوس» ونصه الذي أبدع فيه الكاتب «عبد الرحيم كمال» واستطاع أن يمصر «فاوست»، بل ويعمق من رؤيتها الفلسفية بفضل المساحة الدرامية الأكبر المتاحة له، والذي اعتبره شخصيا الكاتب الوحيد الذي يبشر بالأمل في مصر ولديه رؤية فكرية وقدرة علي بناء دراما صحيحة امتدادا لكبار كتاب الدراما أمثال الراحل أسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبد القوي وما أثري هذا العمل أكثر هو ذهاب كاتبه تجاه الصراع الحالي الذي نعايشه وبعض تناقضات الواقع التي تحتاج لتكاتف إنساني وأسري من أجل النجاة من آل إبليس أو حتي شياطين الإنس. ولفت مسلسل «رأس الغول» الأنظار أيضا رغم ما يعانيه نصه من تفكك إلي حد كبير كغيره من الأعمال الدرامية، ولكن عناصره المختلفة اجتهدت ووضح ذلك في مجمل المنتُج، وإن حسب للكاتب قدرته علي خلق قدر من التشويق وهو ما اعتمد عليه مخرجه وعول عليه حتي يحتفظ بجمهوره للنهاية، وكان الوتر الرئيسي أيضا مفاده أن الفساد يحتاج لقوة جماعية لقهره والقضاء عليه مثلما اتحد الفاسدون في منظومة جعلت مواجهتهم صعبة للغاية. ولأول مرة هذا العام؛ حاول أحد صناع الدراما السورية أن يفرق بين الدراما الشامية والدمشقية، ولكنه أكد أيضا أن الأساس واحد سواء في الدمشقي «عطر الشام» أو الشامي «باب الحارة» و»طوق البنات» وركزت جميعها علي واقع تاريخي واجتماعي لا ينفصل عن واقعنا المعاصر وأن غزاة الأمس الذين حاولوا تفتيت وحدة الصف، مازالوا يمارسون ألاعيبهم وبنفس الفكر ويساعدهم مجموعة من الخونة والطامعين في السلطة رغم افتقادهم لما يؤهلهم لذلك، كما اتفقوا وبطرق درامية مختلفة علي أن التماسك ووحدة المخلصين هي وحدها السبيل نحو الخلاص. وللعام الثاني علي التوالي تواصل اللبنانية «كارين رزق الله» التفوق علي نفسها ككاتبة وممثلة ويشاركها هذا العام بحضور لافت «بديع أبو شقرا»، وحاولت هذه المرة أن تتصدي لظاهرة العنف والقهر، ولكن في القالب الرومانسي المعتاد وإن عابها أنها تخلت هذه المرة عن عنصر المكان من التركيبة الدرامية وحاولت ألا تفقد الزمان مع الحدث مما جعلها لا تركز بشكل فعال علي القضايا الفرعية التي اختارت أن تلقي الضوء عليها مثل زيادة الوزن عند الإناث وتأثيره عليهن والبطالة وقوانين العمل والإسكان غير المنصفة، ولكنها لم تفقد الخط الفكري الرئيسي والمركز كما استطاعت أن تحافظ علي قدر التشويق الذي زاد من حلقة لأخري. تمكن «باب الحارة» في جزئه الثامن أن يكسر الملل بالانتقال حثيثا إلي مرحلة زمنية مغايرة بتحديات أكبر، محافظ في الوقت نفسه علي الحد الأدني من إطاره الذي بدأ به وأضاف ضيوف الحلقات ثقلا فنيا لا يستهان به وخاصة سولاف وفادي صبيح، وحاول «سمر قند» أن يستعيد قدرا ضئيلا من حضور الدراما التاريخية الغائبة وإن أكد مؤلفه أن ما كتبه ليس تأريخا، ولكنه ووسط الجرعات الدرامية المثقلة واستخدام عناصر الزمان والمكان بشكل جيد، ضرب بقوة تجاه جذور التطرف والاتجار بالدين لتحقيق أهداف سياسية واستعمارية. ورغم ذهاب مسلسل «أحمر» السوري بنجومه «سولاف فواخرجي»، «عباس النوري» واللبناني «رفيق علي أحمد» وغيرهم؛ تجاه عالم العنف والجريمة قليلا، ولكن هذا الجنوح بدوره أظهر قيمة التحدي بالحب والإخلاص والإيمان، وأن الخير سينتصر لا محاله، وأن قوة المال تعجز أمام أمور كثيرة، وانضم إلي غيره بدأ من «ونوس» إلي «رأس الغول» والدراما السورية وصولا إلي «مش أنا» والتي بحثت جميعها عن التكاتف المنشود والسبيل الوحيد لتجاوز تحديات هذه المرحلة الصعبة من فساد داخلي ومؤامرات خارجية والنجاة من الطوفان القادم والذي اقترب بشدة.