أود أن أشير من البداية إلي أني لا أري أن هناك نموذجا أو شكلا معينا للإبداع الفني، علي اختلاف أنواعه ومجالاته من تشكيل وشعر ورواية ومسرحية وأفلام سينمائية. وهذا يعني أن حرية الإبداع في التجديد والابتكار هي الشرط الجوهري، ومنها ينبثق الشكل الفني/ الجمالي الذي يرتاح إليه المبدع في سيرورة عمله وإنجازه، بعيدا عن القوالب والنماذج المعروفة. ورواية "ابن القبطية" عمل سردي صعب في إمساك جميع خيوطه واستيعاب صوره واحتمالاته الدلالية، بقدر ما هو جميل وغني في طروحاته وأبعاده ودلالاته. ومرد الصعوبة أن هذا العمل يغطي مساحة واسعة داخل نفس شاب مأزوم، ويتجلي في مستويات متعددة ومتشابكة من فضاء الواقع إلي عالم النفس والخيال الشعري الجميل.. وحتي هذيانات المحموم وهلوساته. وينتقل بنا الكاتب المبدع وليد علاء الدين مبحرا في خضم المشكلة من الحدث الواقعي البسيط.. حتي إصابة البطل، ومن ثم المجتمع، باضطراب نفسي واستغراقه في حالة فصام معقدة، من خلال النماذج المطروحة سواء في الموقف السلبي (رفض أم مريم لطلب يوسف) أو في الموقف النقيض (قبول والد مريم لطلب حسين من قبل) في مونتاج عمودي عميق الدلالة يؤكد علي خلل حاد في بنية المجتمع وغياب الإحساس بالمواطنة. وفي هذا السياق، يبدو زواج الصايغ "الخرتيت" منصور من "الغزالة" أمل تعميقا للمشكلة واستنكارا لها، سواء في نظر القارئ، أو من منظور الشباب الذين انضم يوسف إليهم في سهرة ليلة الدخلة. وحتي فانتازيا قصة يوسف مع راحيل، تبدو غريبة وتتراوح بين الحقيقة والوهم، بين اليقظة وأحلام اليقظة، وقد تكون في بعض احتمالاتها تعويضا نفسيا لإنسان مقهور عن مجمل الخسارات التي كابدها في حياته السابقة من عشق وبطالة وإذلال. وما يوضح احتمال الإيهام قول السارد في (باب الغواية): "إن راحيل.. ليست امرأة؛ فهي واحدة من ألاعيب العقل الباطن، لكي يخلصني من مشاعر الذنب والخطيئة...". والشاعر وليد علاء الدين لم يتخلَّ عن شاعريته ولم يستغرق فيها، لكنه جمع بفنية عالية دقيقة بين الشعر والمسرح والسينما.. وحتي خيال الظل، بين السرد والحوار والنجوي والوجد الصوفي، بين الواقع وأساطير الواقع وشطحات الخيال، موازنا في تنوع التعبير حتي في الصوت بين الحوار المباشر، وبوح الوجدان بالصوت من خارج الكادر، ثم الاستعانة بالرقص لغة الجسد الأولي. لقد قرأت الرواية ثلاث مرات، وبعض الفصول أكثر، وكانت محبتي لهذا العمل وإعجابي بالنسيج الفني/ الجمالي الذي أبدعه الكاتب يزدادان مع كل قراءة جديدة. وأول ما خطر هذا التشابه الرمزي بين شخصية يوسف وشخصية هملت، في أروع مسرحيات شكسبير، وخاصة في مناجاة الذات أو المُسارَّة Soliloquy، حين تزول الثقة بين الإنسان ومحيطه وينعدم التواصل مع الآخرين، فلا يبقي من عزاء غير الحديث مع النفس: أن تكون أو لا تكون! شاب عاش في بيت تغمره المحبة والتفاهم والإخلاص بين أبيه المسلم حسين وأمه القبطية مريم. ولم يكن متاحا لهذه المحبة أن تتحقق وتثمر في صورتها المثلي، لولا موافقة والدها ومباركته لهذا الحب، رغم معارضة زوجته ورفضها لمصاهرة مسلم، إلا أن زوجها أكد لها "أن الرجل بأخلاقه، وأن ابنته سوف تحظي برجل له أخلاق الفرسان". لكن يوسف حين تقدم لخطوبة حبيبته "أمل" رفضت أمها ذلك، لا لشيء إلا لأن أمه غير مسلمة، وكأن أم أمل تعيد سيرة أم مريم، إنما بصورة عاتية وظالمة، لأن العاقبة كانت أشد قسوة ومرارة. وفي حين تتحول جدة يوسف إلي "امرأة أسطورية.. وهبت حياتها لحفيدها تكفيرا عن ذنب أحست بوطأته بعد رحيل زوجها..."، إلا أننا لا نري من أم أمل إلا قرارها التعسفي الظالم الذي كان السبب المباشر لأزمة يوسف ومأساته. وأكثر من ذلك يختفي وجودها من الرواية ولا يذكرها أحد، حتي ابنتها. وهذا ما يذكرنا بالرصاصة الطائشة التي تصيب الضحية البريئة في حفلات الزفاف. وتزداد المأساة عمقا وفظاعة، حين نعلم أن يوسف يحب الموسيقي ويعزف علي العود. ويبدو مشهد المصعد بين الرجل الملتحي وتوبيخه ليوسف، وهو يحتضن عوده: "أما قال لك أحد أن المزيكا حرام!"، بينما برقت عينا زوجته المنتقبة، وكأنها كانت تتمني لو جابهه يوسف بما يستحق. وبالتوازي نري أمل رسامة، لكنها في جو أرحب وأكثر حرية. وهكذا يأخذ الحب بعدا فنيا جماليا، كما أن الحكايات والأحلام التي نطالعها عن الشخوص الرديفة (الأم، أمل، راحيل، منصور، الجدة) تسهم في إغناء فضاء الرواية وتطور أحداثها. وتزداد أزمة يوسف عمقا وتشابكا حين يعلق بين منذر وجورج، حيث يأخذ الأول دور الداعية المتطرف الصارم الذي يريد من الفتي أن يعمل علي أن تعتنق أمه الإسلام، قائلا: "كيف ترضي أن تبقي أمك في غضب الله، وأن يكون مآلها إلي نار جهنم!". وفي الطرف المقابل، يأخذ جورج دور المبشر النصوح: "جئت لأحذرك يا يوسف!" ويؤكد السارد أن المتعصبين الذين صبغوا الدين بالسياسة يرفضون أن يظل يوسف "وجود مشترك" بينهما. ويقول له جورج بصرامة: "نحن لن نقبل هذا الموقف... وهم أيضا لن يقبلوا به". الكاتب لم يعرض هذه المشاهد في وقت حدوثها مباشرة، إنما عرضها من خلال استعراض آثارها عبر الأفكار والتداعيات المضطربة في نفس يوسف، وهو يراها ظلالا متصارعة علي جدار غرفته المقابل للنافذة. لذلك نراه يتهرب خوفا وتوترا من رهبة تلك الظلال وقسوتها عليه، قائلا: "إنه الحشيش، بلا شك، إنه الحشيش". وهو يكتب في كراسته الزرقاء، بعد كابوس مرعب رأي فيه جملا يطارده ويوشك أن يهرسه: "كم تمنيت لو أنني أعرف الحشيش قبل هذا اليوم...". وكان ذلك بعد أن عاني تلك المهزلة البيروقراطية أمام لجنة المسابقة للعمل في التلفزيون، ثم اكتشف أنها كانت مسابقة (شكلية)، لعبة إدارية فظة "لتثبيت جماعة يعملون بالعقد المؤقت...". كانت الكتابة وسيلة للعلاج، بتشجيع من الطبيب الاستشاري بعد أن اكتشف محبة يوسف للقراءة والكتابة. لكن يوسف لا يحتفظ بمسودات كتاباته علي حالها، إنما يلجأ للتنقيح وتجميل ما يكتب، لذلك يتهم نفسه بالكذب. ولعل هذا الميل لتحسين الكتابة يشكل نوعا آخر من الهروب. وهذا ما نلمسه في موضوعات "كراسة يوسف الزرقاء" التي أنهي بها الكاتب روايته، إذ نجد أن معظم هذه الموضوعات تدور في فضاء الصوفية ولمحات من أبرز أعلامها، وكأن الصوفية هي الحضن الدافئ الحنون الذي وجد فيه الضحية مأمنه وخلاصه، بعد "تجربة الموت" التي كان يبحث عنه ليرقص علي إيقاعه، بعد أن انتزعت راحيل ما تريد منه وتركته، كما يقول: "كالمومس، كان شعوري وأنا أفيق لأجد ثمن جسدي تحت وسادتي...". ولا ننسي هنا أن يوسف بدأ بالرقص الصوفي لدي أولي خطوات الخروج من أزمته الخانقة، مرددا مقولة الرومي الأثيرة: "لا يفني في الله، من لم يعرف قوة الرقص". وإذا كنا نمر بأكثر من ذروة من ذري هذا العمل الجميل، فربما كانت أهم تلك الذري اعتراف منصور لوالدة يوسف بأنه فقد سيطرته علي أمل منذ تحدث الناس عن رقصة ابنها، في ختام فصل "حلم أم يوسف": أنت الذي أراد أن يقهرك فقهر نفسه. وفي ختام هذه القراءة الخاصة أعترف، بلا تواضع ولا ادعاء، أني إذا قرأت هذه الرواية من جديد، فسوف أكتب شيئا مختلفا، وإن تقاطع مع الأفكار الأساسية التي خرجت بها من قراءاتي السابقة. إن روعة العمل الإبداعي أن يوحي لك بأشياء جديدة ويلقي في نفسك تأثيرات مختلفة مع كل قراءة جديدة..