أعترف لك أنني كنت أترقب قلقًا عندما كنت تتجول في جنبات معرض لي.. فعيناك كانتا بمثابة ميزان حسَّاس أرتكن إليه وأسترشد به. وعندما أجدك مقبلا مبتهجًا.. أحتفي بتلك الشهادة وأحتفل بها. كان اكتشافي لنظرتك الثاقبة من وقت مبكر عندما التقينا.. لا أذكر متي وأين.. منذ عقود عديدة.. نحن الهائمون في مدينة لا نملك أماكن تخصنا فيها.. إلا أنه كان يملأنا اليقين بأننا نملك تلك المدينة برمتها.. شوارعها وأزقتها وحوانيتها وحاناتها وبحرها.. وجوه القاطنين فيها والعابرين خلالها. مقبلون علي الحياة يغمرنا إيمان عميق بالآتي، متحدين وطأة زمن شحيح ومرتبك.. وفي نزق نتمادي محلقين بأجنحة إيكاروس المثبتة بوشائج شمعية.. لا نهاب سقوطا ولا موتا. أراقبك في هيئتك المهيبة وشعرك الأشعث خارجًا من أساطير كوم الدكة محملا بعبق موسيقي سيد درويش.. متجهًا إلي خشبة المسرح في رهبة ناسك بوذي تجثو علي ترابها مقدمًا قربان عشق.. فينبعث من جوفها صوت سيد: آاااااه أنا عشقت. نعم أنت العاشق للمسرح والهائم في جنباته والمالك لأدواته ولغته وتجلياته. تزاملنا في زمن الدهشة.. مجذوبون في عشق وطن كالدروايش والمنشدين الجوالين.. زاهدين في مكاسب لا تليق بكبرياء الزهاد. وطالنا زمن الغياب والاغتراب.. وتعثرنا في آلة الاستهلاك والاستعراض. والتقينا في نضوج الضعف.. وتساندنا وصارت بيننا أسرار يومية وفكاهات ونميمة بريئة.. مانعين هشاشة القدرة أن توقع بنا. الآن أراك ببصيرتي متجهًا إلي البحر متأملا نورسًا محلقًا في فضاء الحرية.. مرددا بصوتك العميق: مادمت أنا بهجره ارتضيت.. مني علي الدنيا السلام.