في عام 1998 ونحن في مهرجان نوادي المسرح بالإسماعيلية، حيث كنا نستعد لعرض مسرحية (الشخص) وفي إحدي البروفات الليلية التي كان يصر عليها يوسف عبد الحميد أو (عم يوسف) كما نحب أن نناديه، كنا نبدأ البروفة الساعة 12 مساء في مقر إقامتنا ب (نزل الشباب بالإسماعيلية) اقترب أحد شباب المسرحيين البورسعيديين - حيث كنا نقيم جميعا سويا - اقترب منا هو وأحد أصدقائه وهمس إليه قائلا: الراجل ده - وأشار ليوسف - يا إما لسه جاي يعمل المسرحية هنا، أو راجل مخلص قوي...!! وقد كان يوسف عبد الحميد رجلا مخلصا فعلا، هكذا عرفته: يوسف عبد الحميد؛ الابن الأوسط لعائلة مسرحية، الأب أحد "ميكانيستات" المسرح الأوائل المعدودين الذي تتلمذ علي يده جيل الآباء المؤسسين، والأخ فتحي يوسف أستاذ المكياج المسرحي والقلب الطيب الحنون الذي لا يمكن أن ينسي أحد طلته الجميلة وحنوه ومساعدته لكل من عمل بالمسرح السكندري في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. كانوا يصنعون المسرح كشجرة يستنبتونها في فناء منزلهم، يحفظون تواريخ نموها، ويقطفون ثمارها ويوزعونها ثمرة ثمرة علي المحبين، كرهبان نذروا حياتهم فقط لخدمة الرب. عرفت يوسف عبد الحميد وعملت معه منذ عام 1994، وقبل ذلك كانت مسرحيته (النحيف والبدين) التي عرضها في منتصف ثمانينات القرن الماضي بمسرح الغرفة في مسرح سيد درويش (دار أوبرا الإسكندرية الآن) هي أول عمل مسرحي أراه في حياتي، والتي شاء القدر أن أعمل بها معه بعد أكثر من عشرين عاما من مشاهدتي الأولي لها؛ عندما أعاد عم يوسف عرضها بمهرجان شرائح المسرح عام 2001 . يعرف كل من عمل مع مع يوسف دقته المتناهية، ورغبته التي لا تتزحزح في خروج الشيء كما تصوره أو كما كان يراه، وهو الرجل الذي عمل بالمسرح منذ أن كان طفلا وعرف كل خباياه واشتغل بكل مهنه، فعمل ممثلا ومخرجا ومؤلفا ومصمما للديكور ومنفذا له، وكان يقدس كل جزئية في المسرح مهما كانت ضئيلة، فكان يغضب إذا دق أحدنا مسمارا بطريقة يراها خاطئة أو ربط رباط ستارة بغير الطريقة المثالية لربطها، وكنا نحن تلاميذه ومريدوه نتذمر كثيرا من تلك الطريقة التي كنا نراها "حنبلية مفرطة"... لكنني بعد سنوات من ابتعادي عن العمل بالمسرح وقد لحقتنا أجيال صغيرة، لم يُقدَّر لكثير منها أن يعمل مع جيل الآباء المؤسسين، أستطيع أن أري أنه كان هناك فارق كبير بيننا ، أنا وكثيرين من أمثالي، لكن من مسافة بعيدة كفتي أدهشته فتاة فائقة الجمال فأحبها وهام في عشقها، بينما يوسف عبد الحميد قد رعي تلك الفتاة وهي طفلة تحبو، لقد ولد هذا الجيل وفي جيناته حب فطري وعشق للمسرح.. المسرح الذي ولد معه ولم يقابله صدفة في الطريق. كان إخلاص (يوسف عبد الحميد) جزءا أصيلا من شخصيته، إخلاص لن تخطئه عين كل من عاصره وجلس معه، كان الرجل يحب المسرح ليس لأنه عمله ومصدر رزقه، لكن لأنه هكذا وُلد.. حب لا يستطيع التخلص منه، هؤلاء العاشقون بالفطرة، لم يقدموا للمسرح أعمالا أو تاريخا فقط، لكن الأهم أنهم قدموا حياتهم ذاتها التي ما كانت تستطيع الابتعاد عن معشوقهم، والإخلاص هو شرط العشق، لذلك فقد سار جيل الآباء المؤسسين في طريق كان يبدو لنا في كثير من الأحيان غريبا وطويلا ومؤلما وغير عقلاني، لكن العاشق المفطور علي الحب له عين أخري ونظرة مغايرة لا يمكننا نحن عبيد الله الجالسين علي ضفاف بحره أن نحسها أو نشعر بشعور غريق الحب. منذ أيام قليلة مات يوسف عبد الحميد صانعا موته كما كان يصنع حياته بنفس الدقة والترتيب والإخلاص، حتي بدا موته لنا كمسرحية قصيرة شديدة الإحكام.. وفي مدافن (العامود) أشارت السيدة الفاضلة زوجة عمنا الراحل الجليل (حمدي رؤوف) إلي إحدي المقابر المجاورة والتي تبعد فقط خطوتين عن رقدة (عم يوسف) الأخيرة، قائلة: هنا قبر حمدي. وقتها أحسست أن عم يوسف ابتسم ابتسامة العارف، ففي هذه المساحة الظليلة الصغيرة من هذه المقابر الشاسعة يرقد يوسف وأخوه فتحي وصديقه حمدي، وهكذا تركناهم علي يقين بأنه لم تعد هناك غربة أو غياب، فقد اجتمع المحبون. أما الغربة والغياب فهو قدر المسرح الذي مازال يفقد محبيه وراهبي محرابه. في المساء بحثت عن أغاني شريط (وحدانية) للمطربة أنغام، وسمعتها وحيدا، قربانا أُكفّر به يا عم يوسف عن خطاياي وزلاتي معك.. قربانا قاسيا للمحبين الذين تركناهم قبل أن يتركونا.. وابتعدنا عنهم قبل أن يبتعدوا عنا.. قست قلوبنا التي لم تتعلم علي الرغم من سني القُرب الطويلة رهافة الحب، وغدونا من توالي موت الآباء أغلظ قلبا من لحَّادي القبور.