الرسم للطفل يوسف عبد الرحيم يوسف عندما اتصل بي الصديق المخرج والكاتب المسرحي أحمد شوقي بعد ظهر الأحد 5 يونيو ليبلغني بخبر وفاة عم يوسف، ورغم اعتيادي في الفترة الماضية علي أنباء الموت؛ إلا أنني لم أتمالك نفسي من سؤاله مندهشا ذلك السؤال الساذج كيف؟ فلم تكن هناك أي علامات تعب أو مرض فادح علي الرجل خلال الفترة السابقة، بل كنت أتابع نشاطه اليومي علي الفيس وصوره التي يضعها وهو منهمك في العمل علي حاسوبه المحمول في قهوة فرج بكوم الدكة. قال لي شوقي أنها غالبا غيبوبة سكر حدثت له صباحا في بيته. فيما بعد أخبرني الصديق ماهر شريف أنه عرف من أصفياء عم يوسف أنه استيقظ كعادته صباحا ونزل إلي المقهي ثم اشتري إفطاره وصعد إلي بيته ليأخذ حماما وطلب منهم أن يرسلوا من يقوم علي تنظيف شقته الصغيرة وسيترك هو الباب مفتوحا، ليجدوه جالسا ميتا في صالة الشقة. بعد أن أنهيت المكالمة متحججا بتحركي مع طفلي الوحيد إلي العجمي للمكوث مع والديّ يومين لظروف سفر زوجتي خارج مصر، ملت علي يحيي وسألته: تعرف مين مات؟ جمدت نظراته من وراء عدستي نظارته الصغيرتين وتساءل: مين؟ قلتله: عم يوسف.. اللي كنت بتلاعبه طاولة علي قهوة صيام من كام شهر! فاكره؟ فرد باقتضاب: فاكره. مكثنا نتحدث قليلا عن عم يوسف. لم أكن أقصد إرهاب طفلي بالحديث معه عن الموت، ذلك الزائر الذي أصبح أليفا حتي بالنسبة له في الأعوام الماضية. مات صديقنا المخرج المسرحي حمدي سالم منذ أربعة أعوام وكان دائم اللعب مع يحيي. وماتت جدته لأمه بعدها بعام، وتوالت زيارات الموت الخاطفة. كنت أحاول أن أهون الأمر عليَّ بأنانية لا أنكرها، وأتعلل بثبات طفلي عن ذلك الشعور بالخوف القاتل والكآبة الثقيلة الذي جعلني أهرب في الفترة الماضية من السير في الجنازات وحضور العزاءات. طوال الطريق إلي العجمي كنت أميل يسارا لأحادث يحيي قليلا، ثم أميل يمينا مستندا إلي زجاج نافذة الميكروباص مستعرضا تاريخ معرفتي بعم يوسف. سمعت باسمه لأول مرة في عام 1998 أو 1999 من صديق يعمل ويقيم في كفر الدوار، وكان وقتها يطمح إلي إصدار مجلة ثقافية مستقلة، هاتفني لنلتقي ونذهب لحضور عرض مسرحي في قصر ثقافة الأنفوشي اسمه (موت فوضوي قضاء وقدرا) عن نص الإيطالي داريو فو الحاصل علي نوبل والذي كنت قد قرأته في طبعة دار الهلال وقتها، وبعد العرض كنا سنقوم بعمل حوار مع مخرجه: الأستاذ يوسف عبد الحميد. ذهبنا لكن العرض كان قد أُلغي هذا اليوم لظرف ما ولم نتمكن من إجراء الحوار. لكن اسم الرجل ظل في ذهني، وتأخر اللقاء إلي عام 2000 مع بداية اندماجي في الوسط الثقافي والمسرحي بالإسكندرية، وجلوسي في مقهي الكريستال حيث كان يجلس عصرا معظم من تعرفت عليهم من أهل المسرح والأدب. يدخل عم يوسف صيفا مرتديا تيشرتا قطنيا وبنطلونا مريحا وحذاء خفيفا وعلي كتفه حقيبة صغيرة، وفي الشتاء يتلفع بكوفية وجاكت ثقيل. يدخل بجسده الكبير وابتسامته الساخرة الثابتة علي طرف فمه فيجلس معنا أو ينفرد بالمائدة المستديرة في وسط المقهي ليفرد أوراقه أو يطالع شيئا ما. مع حلول المساء يصبح الجلوس في الكريستال صعبا فننتقل إلي مقهي البوابين، ونستكمل سهرتنا علي مقهي صيام التي لا تغلق أبوابها أبدا. هناك كنا أحيانا نظل ساهرين حتي الصباح، نتكلم ونتناقش ونضحك ونلعب الدومينو ونقرأ كتاباتنا ونناقشها، يسهر معنا أحيانا عم يوسف صديق صاحب المقهي المعلم حمدي صيام، وأحيانا يصاحبنا الفنان محمد أنور بعوده وألحانه المسرحية. كان أنور أيامها يقيم مع عم يوسف في بنسيون قريب، وكان عم يوسف يشاركنا الجلسة والغناء والنقاش أحيانا. روح أبوية غامرة لكنها تقبل مداعبات الأبناء ومشاغباتهم وآراءهم المخالفة. كنت أشاركه محبة عبد الوهاب وأنغام، وأختلف معه في كراهيته الشديدة لفريد الأطرش ومحمد منير، وعندما يصفو الليل وينساب حديث الذكريات كنت أنصت شغوفا لحكاياته عن المدرسة وكوم الدكة والمسرح والحياة في إيطاليا. كنت سعيدا للغاية لأنه كان تلميذا في نفس المدرسة الابتدائية التي ذهبت إليها بعده بثلاثين عاما: مدرسة بلقيس الابتدائية. كنت سعيدا بوجود نقطة تقاطع وحيدة معه في حياته تلك الثرية. وحدث في عام 2006 أن التقينا أخيرا في عمل مسرحي أخرجه صديقنا أحمد صالح عن قصة قصيرة للأديب حجاج أدول قمت بإعدادها وصياغتها للعامية تحت عنوان (الهوجة) وشارك فيها عم يوسف ممثلا، كان العرض بأكمله يعتمد علي ممثلين اثنين فقط يقومان بجميع الأدوار: عم يوسف وممثلة موهوبة اعتزلت للأسف وهي داليا بستك. كان عم يوسف مبهرا علي المسرح وهو يتحرك ويرقص ويحمل داليا علي ظهره أو يُخرج رأسها من ثقوب عباءته. وفي نفس العام قمت بإعداد وكتابة أشعار لعرض عطوة أبو مطوة لألفريد فرج وأخرجه المخرج السكندري الراحل عادل شاهين، وفي كواليس العرض فوجئت بعم يوسف يقوم بوضع الماكياج لفريق العمل. بعدها بعامين أو ثلاثة سافر عم يوسف إلي إيطاليا بعد أن تزوج بصديقته التي فارقها منذ 25 عاما، وهناك بدأ يراسلنا عبر الفيس بوك ويتابع أخبارنا، ومع قيام ثورة 25 يناير عاد إلي مصر وأصر علي البقاء في الإسكندرية بعد انفصاله عن زوجته، وقرر أن يبدأ طريقا تأخر كثيرا في انتهاجه: الترجمة. كان صديقه الأستاذ هشام حسن يراجع معه اللغة، ولأن الأستاذ هشام يعمل في السعودية كان عم يوسف أحيانا يتصل بي ليتأكد من شيء، أو يزورني في مكتبة الكابينة بعد انتهاء ترجمة رواية (أنا وأنت) للكاتب نيكولو أمانيتي لمراجعة سريعة. الغريب أن الرواية خرجت في نسخة أخري مليئة بالأخطاء الإملائية! عندما أخبرته عن يحيي وحبه للعب بالعرائس ومسرح خيال الظل الصغير الذي جلبته إليه من ألمانيا، فاجأني في لقاء تال بهدية ليحيي عبارة عن عروستين صنعهما بنفسه من خشب الأركت: نمر خشبي ودائرة خشبية عليها دجاجات تنقرها بمجرد أن تجذب خيوطها. في حفل توقيع مشترك بدار كلمة بالإسكندرية عام 2013 جمعني والصديقين الشاعر أحمد عبد الجبار والشاعرة صفاء عبد العال، كان عم يوسف وصديق عمره الفنان مصطفي درويش حاضرين، التقطنا صورة جماعية جميلة ظل لفترة محتفظا بها كصورة بروفايل علي الفيس بوك. في ديسمبر الماضي التقينا علي مقهي صيام ومعنا الفنان مصطفي درويش والأستاذ هشام حسن، جلس يحيي معهم وهم يلعبون الطاولة وأصر علي تعلمها ومشاركتهم، وأصر عم يوسف أن أتركه يلعب معهم رغم محاولاتي إبعاده خشية إزعاجهم. "علي فكرة إنت اللي منزعج مش إحنا، سيبه براحته واقعد براحتك" هكذا قالها ببساطة وحزم. اليوم وجدت يحيي يخرج نمره الخشبي من صندوق ألعابه الضخم، وجمت قليلا وفاجأتني الحركة ولم أسأله لماذا تذكرها الآن.. كنت سعيدا بشكل ما لأن يحيي نال نصيبه من محبة هذا الرجل الكبير.