تأخرت كثيرا في التعليق علي كتاب "الجينوم" المادة الوراثية. قضايا فقهية. لمؤلفه الفقيه الكبير أستاذنا العالم الجليل فضيلة الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان العميد الأسبق لكليات الشريعة بطنطا والقاهرة وعضو المجامع الفقهية في مصر والعالم. وقد شعرت بعد الانتهاء من قراءته أنني قصرت كثيرا في حق القراء حينما تأخرت في تقديمه لهم تلك المدة. التي يعد مرور أقل وقت منها خسارة لطلاب العلم. ومحبي الإجادة في البحث الفقهي. وأصحاب الذوق الرفيع في استيعابه. ومن يعتريهم أدني شك في صلاحية التشريع الإسلامي لاستيعاب نوازل الحياة ومستجدات العلم ليس في وقتنا فقط. الذي يعد هذا السفر الفقهي الراقي علامة بارزة من أعظم علاماته. بل وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها. لكن يشفع لي في هذا التأخير أنني كنت مشغولا بقراءته. ومأخوذا بما فيه من دقة التناول وموضوعية البحث وجمال العبارة الفقهية. وأذكر أن أستاذنا الجليل فضيلة الشيخ محمد أنيس عبادة - رحمه الله - كان ينصحنا في بداية اشتغالنا بالبحث الفقهي عندما تم اختبارنا معيدين بكلية الشريعة والقانون عقب تخرجنا بتفوق فيها. أن نقرأ كثيرا في ثلاثة كتب حتي يتم تقويم أسلوبنا وكتابتنا علي غرار الأسلوب الفقهي المتميز فيها. وهي: كتاب حجة الله البالغة للإمام الدهلوي. والموافقات للإمام الشاطبي. وقواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبدالسلام. وكان يقول: إن تلك الكتب الثلاثة تعلم طالب علم الفقه المبتدئ الأسلوب الفقهي كما يتعلم من يريد أن يكتب الشعر من دواوين السابقين. وأنا أضيف لتلك الكتب الثلاثة كتابا رابعا لا يقل أصالة عنها. ومؤلفه لا يقل شموخا عن مبدعيها وهو كتاب "الجينوم" لعلامة العصر الفقيه الكبير الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان. لقد أدي الفقيه الكبير مؤلف كتاب "الجينوم" واجبه حيال أمته. كما أداه المخلصون من علمائها السابقين - مد الله في عمره - وأقام به جسرا علميا متينا بين الماضي والحاضر. أو كما يقول البعض: جمع بين الأصالة والمعاصرة. ولم يكن في اختياره لنوازل العصر مأخوذا بالتافه منها. أو المحدود من آثارها كما وقع كثيرون من أقرانه في فخ إساءة اختيار قضايا بحوثهم. واستهلكت آراؤهم أو ضاعت في غياهب تلك الآراء الكاسدة التي ملأت ساحة الفتوي والنشر. بل كان اختياره عملاقا علي مستوي رسوخه في البحث الفقهي وتمكنه من لغته كما يتمكن الملاح الماهر من الإبحار بثبات في أعالي البحار. ووقع علي آخر ما تفتقت عنه قرائح العلماء في آيات الله الكونية التي أبدعها في الإنسان. كأبحاث الخلايا الجذعية والاستنساخ. واستئجار الرحم والبصمة الوراثية واستعمال الجينات في العلاج. واختيار الوالدين لنوع الجنين. والفحص الوراثي عند الزواج. وأثر الجينات علي السلوك البشري. وزراعة الأعضاء والغدد التناسلية. ثم راح يغوص بتلك القضايا العلمية المستجدة في أعماق المصادر الفقهية ليستخرج من بطونها ما بين الحكم الفقهي الصحيح لها. وفقا لأدلة الشريعة السمحاء ومقاصدها في رعاية مصالح الناس ورفع المضار عنهم. وكان موفقا في بيان أحكامها. ولم يكن متحيزا في تناوله. أو راغبا عن إدراك الحقيقة المجردة فيها ابتغاء وجه الله وحده. وكان يعمل عقله في استخراج وجوه الدلالة من النصوص الشرعية فلم ينقل الأدلة نقلا جامدا بعيدا عن فقه الواقع. فإذا وقف الدليل عن استيعاب فرع فقهي منها أخرج أدوات فهمه وقدرات عقله لتكون وجوه الدلالة واضحة. واستيعاب الأصول للفروع شاملة. وقد قدم له فضيلة المفتي الدكتور علي جمعة مقالة علمية بديعة. ولمؤلف "الجينوم" أسلوب فقهي متميز يتسم بالرسوخ والرشاقة والتمكن من مقاليد اللغة العربية كتابة وتطبيقا. يسامق أسلوب الأدباء. ويبز تناول الفقهاء. ويدفع الراغب في الفقه والعاشق للأسلوب الأدبي. أن يبادر إلي قراءة هذا السفر الفقهي الرصين. ذلك من حيث اللغة. أما منهج البحث فقد سار علي منوال الشافعي في الاستنباط والدكتور محمد رأفت عثمان شافعي مقارن حتي أخمص قدميه. فيقرر القاعدة ويبني عليها الحكم. ثم يخرج بقية فروع الموضوع عليها. وأما منهج الكتاب. فهو منهج علمي معاصر يبدأ بالكليات وينتهي للجزئيات. ودون إهدار لتطور العلوم أو حجر علي امتداد في نطاق آيات الله المنظورة والمقروءة التي تلاشت الفوارق فيها. بين دفتي "جينوم" الدكتور رأفت عثمان جزاه الله خير الجزاء عن هذا السفر العظيم.