** لم يكد الصغير يري شكل اللحمة ويشم رائحتها وأمه تخرجها من الكيس حتي صرخ بأعلي صوته.. هييييييه عندنا لحمة.. عندنا لحمة. لم تتمالك الأم نفسها من الضحك وحاولت أن تمنع صغيرها من الكلام.. قالت وهي شبه تنهره أو وهي تضربه كما "تضرب الغازية في حمارها" اسكت يا مفعوص حتفضحنا وتلم علينا الدنيا وساعتها الناس حتقول علينا ايه؟؟!! ** وتدخلت جدته ضاحكة وهي تطلب منها أن تترك الولد يفرح ويعبر عن مشاعره ويطلع ما بداخله.. يعني أنت أيضا ألست فرحانة باللحمة ودخلتها عليك.. ونفسك تعبري عن فرحتك لكن لا تستطيعين.. انما الصغير عنده براءة.. لم يلوث بعد ولم يتعلم النفاق أو الخداع أو اللف أو الدوران.. يعني نحن منذ كم أسبوع لم نر شكل اللحمة؟ الظاهر الأيام بترجع إلي الوراء ويا رب تعود.. أيام ما كانت الناس تأكل اللحمة بجدول معروف ولا يخرج عليه أحد إلا السفهاء أو ناس من طينة تانية أو اغراب حقيقي عننا.. مرة في الأسبوع أو في المواسم والأعياد.. وأيامها كانت اللحمة لحمة بجد تشم رائحتها من علي بعد.. الناس وهي راجعة من الغيطان بدري أو حتي متأخرة رائحة اللحوم والمرق تعبأ الأجواء ودخان أفران الأرز المعمر يشكل سحابة بيضاء جميلة لها رائحة ذكية تفتح النفس وتجري الدم في العروق.. وليست كالسحابة السوداء لهذه الأيام.. التي تزكم الأنوف.. وتوقف المراوح.. وتورم العيون ولا نجني من ورائها إلا كل بلاء وبلية.. ** قالت لها: الأفضل أن نتكلم في اللحمة ونبتعد عن السحابة السوداء وسنينها.. حتي علي الأقل نشم رائحة حلوة.. وكما يقولون رائحة البر ولا عدمه!! ** وعلي الفور أدارت الجدة دفة الحديث إلي اللحمة.. وقالت نحن الآن في أيام مفترجة.. أيام عيد الأضحي المبارك.. وهي أيام اللحمة وأيام أكل وشرب والمفروض أن نوسع فيها علي الأولاد... بحسب وصية النبي عليه الصلاة والسلام. وتنهدت الجدة تنهيدة.. اسقطت وأوجعت وكادت تخلع قلوب من حولها ثم واصلت الحديث المر: هل تعرفين ان أجدادنا زمان أكثر نصاحة وفصاحة ليس فقط في الكلام لكن حتي في الأكل.. وفي مثل هذه الأيام.. موسم اللحمة.. لم يكونوا يأكلون اللحم كالمفاجيع.. أو كأنهم يأكلون آخر زادهم في هذه الحياة.. ورغم انه لم يكن هناك ثلاجات ولا ديب فريزر ولا غيره إلا انهم كانوا يحفظون اللحوم لأطول فترة ممكنة ليستفيدوا بها طوال العام أو أطول فترة ممكنة.. اشئ مقدد واشئ محمر.. واشئ محفوظ في الدهن السايح وفي برطمانات زجاج.. وعلي الرفوف أشكال وألوان.. وبالحساب.. حتة مع كل طبخة.. أو ساعة اللزوم يعني!! ** سألت باستهزاء وخبث: يعني ايه ساعة اللزوم دي يا ستي؟؟ ** فردت عليها الجدة باستنكار اشد: جيل هذه الأيام لا يعرف اللزوم لأنه أصبح ليس له لزوم.. ودماغه فاضية ومشغولة فقط بالكلام الفاضي.. واللزوم عنده في الكلام الفاضي.. ولا تأخذي منه لا الكلام الفاضي.. كلام.. اه.. فعل.. لا وإذا حاول أحد ان يحدثهم.. تتقطع هدومه ويدخلك في دوامات وحكايات ويشيلك هم الدنيا والآخرة.. ويبكيكي علي حاله المايل من يوم أبوه ما فكر يرتبط بأمه وليس منذ الزواج. ** قاطعتها بغيظ: يا ستي خلينا في اللحمة؟؟ ** قالت لها: سنواصل بعد أن تأتي اللحمة ونشوفها.. أما الحديث علي الناشف.. فشيء مؤلم.. مؤلم.. ولا أدري إلي متي سنظل نرزح تحت مظلة: قوووول يا ألم!!!