كانت أياماً جميلة رائعة بكل ما فيها من بساطة. وتسامح. وعنف أحياناً. عنف لا يتعدي كثرة الحديث. وارتفاع الأصوات. والتشابك الذي لا يصل إلي مرحلة الإيذاء البدني. يعقبه صلح ووئام وسلام. كانت القراءة والبحث وراء كل معلومة أدبية و فنية. والمشاركة في الجمعيات الأدبية ومناقشة أفكار تطرأ علي الذهن. وارتياد دور السينما لمشاهدة الأفلام العربية والأجنبية ثم مناقشة السيناريو وعبقرية المخرج وقدرة المصور في التقاط الصورة التي تغني أحياناً عن الحوار. والاشتراك في الندوات الأدبية. وفريق الجوالة أو التمثيل في الساحة الشعبية والجامعة الشعبية التي سميت بعد ذلك بقصور الثقافة والاستمتاع بسماع الموسيقي والاعجاب ببراعة العازف في استخراج أنغام تسيطر علي النفس تخلقها أوتار يحركها العازف. والاستمتاع بمحاضرات الدكتورة سهير القلماوي والدكتور محمد فتح بدران. والدكتور عيسي عبده رجل الاقتصاد بجامعة عين شمس والشيخ محمد أبو زهر والغزالي.. كل ذلك بقصر ثقافة طنطا في وائل الستينيات حتي بعد منتصفها وتحديداً بعد الهزيمة المروعة التي أدمت القلوب والعيون سنة 1967. كانت حياتنا هذه بجانب مذاكرة الدروس التي ما كنا نعطيها أولوية عن القراءة الحرة والبحث عن الكتاب القديم لنري باعتها. قضينا فترة الصبا والشباب أثناء الدراسة وما بعدها والالتحاق بالهيئة القضائية. نبحث وراء كل بائع كتب قديمة لنمتع عقولنا وأحاسيسنا وأعيننا بما تركه أسلافنا من فكر. تتبعت عم عبدالحميد بائع الكتب تحت الكوبري بجوار محطة سكة حديد طنطا وأمام مدرسة الست مباركة. وعم قطب بجوار مسجد السيد البدوي والشيخ إبراهيم الشناوي عشاق التجارة في الكتب حتي أنهم كانوا يثمنون الكتاب إذا ما امتدت إليه يدي. أما حيث أتركه فلا يغالون في ثمنه. رفعوا أسعار مجلات المقتطف والرسالة القديمة والهلال القديم من قرش صاغ إلي قرشين حين رأوني أهتم بجمعها وشرائها. بالمناسبة القرش الواحد يعادل واحد من مائة من الجنيهات لمن لم يعرف عملة القرش تكونت لدي مكتبة عامرة تحتل غرفة وبعض غرفة عدا عدة كراتين كبيرة من جراء شراء الكتب حتي أصدر الدكتور عبدالقادر حاتم عدداً من المطبوعات المتنوعة بأسعار لا تتجاوز خمسة قروش عدا مجلة المجلة فكانت بعشرة قروش مثل أعلام العرب ومجلة المسرح والرسالة والثقافة. والشعر والقصة. ومسرحيات عالمية وتراث الإنسانية. والفكر المعاصر. فكانت عصر من أزهي عصور الثقافة رحمه الله. زمن جميل تمتعنا فيه بكل أنواع الفنون والموسيقي والغناء وغناء محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش في أغان عديدة مازال جمالها منهمرا في آذاننا.. أذكر أن الناقد الموسيقي عبدالفتاح البارودي. كتب عن موسيقي أغنيتين لفريد الأطرش: عدت يا يوم مولدي. وبقي عايز تنساني. انهما يحملان نغماً يعجز عن تأليفه عباقرة الموسيقي. وأنهما يعدان مدرسة في الموسيقي الشرقية. أتذكر ذلك كله وأشعر بحسرة علي شباب اليوم الذي ارتدي المقطوع من الملابس. أطلق شعره بصورة غير مهذبة تشبه ما كنا نطلق عليه "رأس العيد الذي كان يستعمل في تنظيف الأسقف والحوائط العالية". أقصي ما يقرأه الشباب اليوم الروايات البوليسية أو الجنسية بقصد التسلية إذا كان يقرأ. تقول ألا ليت الزمان يعود يوماً ولا أقول الشباب ليستمتع أولادنا بما استمتعنا به.