كلمات قوية ومعبرة وصادقة.. عبارات موضوعية ومركزة وغاية في الوضوح والصراحة تحدث بها الرئيس عبدالفتاح السيسي في كلمة مصر إلي العالم من فوق منبر الأممالمتحدة.. عرض الرئيس رؤية مصر للمرة الخامسة علي التوالي أمام اجتماع الجمعية العامة ال 73 وكانت بمثابة رؤية ثاقبة من أجل استعادة دور الأممالمتحدة المفقود ومصداقية النظام العالمي الغائبة وعبر الرئيس بوضوح وصدق وشجاعة وثقة عن كيفية تصرف الدول الكبيرة صاحبة التاريخ التليد والحضارة الراسخة والتي تدرك دوما التزامها ومسئولياتها تجاه العالم بصفة عامة ومنطقة الشرق الأوسط والعالم العربي والقارة الافريقية بصفة خاصة. الرئيس السيسي بدء رسائله المباشرة بضرورة العمل الفوري لتجديد التزام ومساهمة الدول الأعضاء في تعزيز مكانة ودور الأممالمتحدة كقاعدة أساسية لنظام دولي عادل وفاعل يقوم علي توازن المصالح والمسئوليات واحترام سيادة الدول ونشر ثقافة السلام والارتقاء فوق نزعات العنصرية والتطرف والعنف وتحقيق التنمية المستدامة.. وهذه القيم هي التي حكمت الرؤية المصرية تجاه الأممالمتحدة منذ أن شاركت في تأسيس هذه المنظمة الدولية قبل سبعة عقود وأيضا خلال عضوية مصر بمجلس الأمن في المرات الست التي تم انتخابها وآخرها عامي 2016 و2017 وهو الدافع وراء اسهام مصر النشط في عمليات حفظ السلام الأممية لتصبح سابع أكبر مشارك في هذه العمليات. دعا الرئيس لأن يتصارح الجميع وان يعترف بأن هناك خللا يعتري أداء المنظومة الدولية ويلقي الكثير من الظلال علي مصداقيتها لدي كثير من الشعوب خاصة في المنطقتين العربية والأفريقية واللتين تعيش مصر في قلبهما.. وتساءل الرئيس كيف نلوم مواطنا عربيا يتساءل عن مصداقية الأممالمتحدة في الوقت الذي تواجه فيه دول المنطقة مخاطر التفكك وانهيار الدولة الوطنية لمصلحة موجة إرهابية وصراعات طائفية ومذهبية تستنزف مقدرات الشعوب العربية.. وكيف نلوم مواطنا فلسطينيا يتساءل أيضا عن عدم حصول الشعب الفلسطيني علي حقوقه المشروعة في العيش بكرامة وسلام في دولة مستقلة تعبر عن هويته الوطنية وآماله وتطلعاته.. وهل ممكن اعتبار المواطن الأفريقي مغاليا إذا اشتكي من انعدام فعالية النظام العالمي لما تعانيه قارته من نظام اقتصادي يكرس الفقر ويعيد إنتاج الأزمات الاجتماعية والسياسية ولا يتيح آفاقا للتطوير أو التقدم. ومن منطلق ان مصر صاحبة المصلحة الأكبر في تفعيل دور الأممالمتحدة باعتبارها رئيسا لمجموعة ال 77 والصين والتي تضم غالبية سكان هذا الكوكب نقل الرئيس مطالب هذه الشعوب قائلا: ان الدول النامية لا تحتمل العيش في منظومة دولية لا يحكمها القانون والمباديء السامية التي تأسست عليها الأممالمتحدة فهي دائما عرضة للاستقطاب ومحاولات البعض الهيمنة علي النظام الدولي وفرض توجهاته. قدم الرئيس الحلول من خلال رؤية مصر لكي تستعيد الأممالمتحدة فعاليتها ودورها من جديد.. فلن يتم تفعيل النظام الدولي إذا كانت وحدته الأساسية وهي الدولة الوطنية القائمة علي مفاهيم المواطنة والديمقراطية والمساواة مهددة بالتفكك.. هذه الرؤية تنبع من خبرة مصرية فريدة لشعب بذل جهدا كبيرا لاستعادة دولته وأنقذ هويته واختار ان تكون الدولة الوطنية القادرة والعادلة بوابة الإصلاح وتحقيق تطلعاته في الحرية والتنمية والكرامة. حدد السيسي في كلمته أخطر الظواهر تهديدا لعالمنا المعاصر.. وأكد علي ان تفكك الدول تحت وطأة النزاعات الأهلية والارتداد للولاءات الطائفية بديلا عن الهوية الوطنية هو أهم الأسباب.. كما ان النزاعات المسلحة وتفشي ظاهرة الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة وتجارة السلاح والمخدرات تعد سببا مهما لتهديد الأمن العالمي. ومن هذا المنطلق نوه الرئيس إلي أن منطقتنا العربية تعد أكثر بقاع العالم عرضة لمخاطر تفكيك الدولة الوطنية وبالتالي خلق بيئة خصبة للإرهاب والصراعات الطائفية لذلك فالحفاظ علي قوام الدولة وإصلاحها أولوية أساسية لسياسة مصر الخارجية في المنطقة العربية.. ونوه الرئيس مجددا انه لا مخرج من الأزمة في سوريا والكارثة التي تعيشها اليمن إلا باستعادة الدولة الوطنية والحفاظ علي سيادتها وسلامة مؤسساتها وتحقيق التطلعات المشروعة لمواطنيها.. فمصر ستظل في طليعة الداعمين للحل السياسي وترفض أي استغلال لأزمات الأشقاء في سوريا واليمن كوسيلة لتحقيق الاطماع والتدخلات الاقليمية أو كبيئة حضانة للإرهاب والتطرف والعنف. بصراحة ووضوح لفت الرئيس السيسي انتباه العالم إلي انه قد مر عام علي تبني الأممالمتحدة لمبادرة الحل الشامل للأزمة الليبية دون تحقيق أي تقدم في تنفيذها وهو ما يستوجب منا جميعا تجديد التزامنا بالحل السياسي وفقا لما تضمنته عناصر تلك المبادرة.. فلا مجال لحلول جزئية في ليبيا أو سوريا أو اليمن.. فالأزمات الكبري تحتاج لمعالجات شاملة ان أردنا تجاوز استنزاف البشر والموارد. لم ينس الرئيس مشاكل القارة الأفريقية في رؤية مصر باعتبارها ستتولي رئاسة الاتحاد الأفريقي في دورته القادمة في 2019.. فقد أكد الرئيس علي أهمية الالتزام بإيجاد حلول سلمية مستدامة للنزاعات الدولية والتي هي أساس نشأة الأممالمتحدة.. فبالرغم من ان هناك جهودا للمنظمة الدولية في نزاعات عديدة مثل جنوب السودان وافريقيا الوسطي ومالي إلا ان هذه الجهود مازالت قاصرة ولم تسفر عن إيجاد تسوية نهائية لهذه النزاعات.. أيضا لابد أن تكون هناك مساعدات لهذه الدول كي تستطيع إعادة تأهيل مؤسساتها وإعادة البناء والتنمية دون التدخل في شئون هذه الدول وانتهاك سيادتها وتجنب فرض نماذج مستوردة للحكم أو التنمية. وفي رسالة أكثر قوة ومن منطلق تسوية النزاعات كدور أساسي ومبدأ هام للأمم المتحدة.. أكد الرئيس ان القضية الفلسطينية تقف دليلا علي عجز النظام الدولي عن إيجاد الحل العادل المستند إلي الشرعية الدولية وقرارات الأممالمتحدة والذي يضمن إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدسالشرقية.. فالمطلوب هو توفر الإرادة السياسية لاستئناف المفاوضات وإنجاز التسوية وفقا لهذه المرجعيات فلا مجال لإضاعة الوقت في سجال.. وكرر الرئيس أن يد العرب لاتزال ممدودة بالسلام وشعوبنا تستحق أن تطوي هذه الصفحة المحزنة من تاريخها. التنمية الشاملة والمستدامة لم تغب عن رؤية مصر أمام الأممالمتحدة بوصفها الشرط الضروري لنظام عالمي مستقر وهي أفضل السبل للوقاية من النزاعات المسلحة والأزمات الإنسانية.. فتمويل التنمية دون شرط ودعم الجهود الوطنية لحشد هذا التمويل يأتي ضمن ما تم الاتفاق عليه في إطار الأممالمتحدة حول خطة 2030 للتنمية المستدامة وعلينا تنفيذ تعهدات هذه الخطة. لم يخف علي الرئيس أن يطرح ثلاث قضايا هامة وأساسية تمثل أولويات ضرورية لتطبيق مباديء الأممالمتحدة وتمثل الحديث الجاد عن تفعيل دورها وإعادة مصداقيتها. أولي هذه القضايا تعزيز الشراكة بين الأممالمتحدة والمنظمات الاقليمية وأشار الرئيس إلي التجربة الناجحة للشراكة بين الأممالمتحدة والاتحاد الافريقي ووصفها بأنها نموذج يحتذي في اقتسام الأعباء والاستفادة من المزايا النسبية لكل طرف لمواجهة التحديات المعقدة في قارتنا.. لذلك فإن مصر تتطلع لتفعيل هذه الشراكة عبر برامج ذات مردود ملموس علي القارة لإحياء سياسة الاتحاد الأفريقي لإعادة الإعمار والتنمية. القضية الثانية وهي الأكثر أهمية وخطورة وهي مكافحة الإرهاب.. والذي تتبناه مصر نيابة عن العالم وأطلقت العملية الشاملة سيناء 2018 من خلال استراتيجية أمنية وايديولوجية وتنموية ونستطيع أن نبني علي هذه التجربة وأن نستفيد من الخبرة المصرية وان يتم التعاون لدعم مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط.. لأن حجم التمويل والتسليح والتدريب ووسائل الاتصال التي تحصل عليها الجماعات المتطرفة تشير إلي أنه لابد من بناء منظومة عالمية لمكافحة الإرهاب حيثما وجد ومواجهة كل من يدعمه بأي شكل. القضية الثالثة التي تضمنتها رؤية مصر هي ضرورة معالجة القصور الكبير في تعامل المجتمع الدولي مع قضايا حقوق الإنسان.. فلا مجال لاستعادة مصداقية الأممالمتحدة طالما استمر الملايين يعانون من فقر أو يعيشون تحت الاحتلال أو يقعون ضحايا لعمليات إرهابية أو صراعات مسلحة.. فحماية حقوق الإنسان لن تتحقق بالتشهير الإعلامي وتسييس الآليات وتجاهل التعامل المنصف مع كافة مجالات هذه الحقوق ولكنها تتحقق بوجود آليات حاكمة في هذا الملف. مصر تمتلك أساسا دستوريا راسخا لحماية حقوق الإنسان بأشمل معانيها وهناك قفزات ملحوظة في مجال تمكين المرأة والشباب.. ومصر عازمة علي أن تجعل قضية التمكين الاقتصادي للمرأة إلي جانب قضايا الشباب والعلوم والتكنولوجيا والابتكار في طليعة أولوياتها خلال رئاسة مجموعة ال 77 والصين كنموذج عملي لتطبيق التزامنا بمفهوم شامل للارتقاء بأوضاع حقوق الإنسان بأوسع معانيها. حقيقة جاءت رؤية مصر واضحة ومعبرة عن رغبة أكيدة في استعادة مصداقية العمل الدولي متعدد الاطراف ودور الأممالمتحدة كقاطرة له.. كما أن مصر تؤمن بأن المنظمة قادرة علي تجاوز التشكيك في جدواها ومصداقيتها من خلال استعادة مبادئها السامية والعمل وفقا للأولويات التي تعكس طموحات الشعوب وثقتها في مستقبل قائم علي السلام والتعاون واحترام الآخر. هذه هي مصر التي عادت قوية.. بعد أن حققت نجاحات متتالية علي كافة المستويات سياسيا واقتصاديا وتنمويا وأمنيا وأصبح العالم كله يتطلع لأن يستمع إليها ويتحاور معها ويستفيد من تجاربها.