لا جديد في إعلان الرئيس الأمريكي ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران. لا من حيث الشكل. ولا من حيث الموضوع. ولا التوقيت أيضا. القرار جزء من البرنامج الانتخابي الذي خاض به ترامب معركة الرئاسة الأمريكية. ووعد الأمريكيين بالالتزام بتنفيذه حال وصوله للرئاسة.. وقد كان. والقرار واحد من حزمة قرارات مشابهة تضمنها البرنامج. وطالت حلفاء أمريكا قبل أعدائها. ونفذها ترامب خلال عامه الأول في البيت الأبيض. ومن هذه القرارات. إعلان الانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة مع كندا والمكسيك. ومن اتفاقية الشراكة التجارية عبر الباسفيك مع اليابان وكوريا الجنوبية ودول أخري. ومن اتفاقية المناخ العالمية. بل والتهديد بفض الشراكة الأمريكية الأوروبية عبر الأطلنطي اذا لم يلتزم الشركاء الأوروبيون في الحلف بزيادة مساهماتهم المالية في نفقات الدفاع عنهم وحمايتهم التي تتكفل أمريكا بمعظمها. وفي كل هذه القرارات. استخدام الرئيس ترامب تكتيكا واحدا لايتغير. وهو تكتيك شبيه بسياسة "حافة الهاوية" التي مارسها "جون فوستر دالاس" وزير خارجية أمريكا في خمسينيات القرن الماضي في أوج الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي. وقيل إن هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا نصح الرئيس السادات باتباع تكتيك قريب من ذلك في بداية ولايته مطلع السبعينيات. وذلك "بتسخيف" الجبهة مع إسرائيل حتي يفرض قضيته علي الاهتمام العالمي. اذا كان يريد تخليص سيناء من الاحتلال الاسرائيلي. وان ذلك ساهم في تشجيع السادات علي اتخاذ قرار حرب أكتوبر 1973. ثم التوقف عند نقطة محددة فيها. هو تكتيك تفاوضي في الأصل. يهدف إلي وضع الطرف الآخر تحت أقصي قدر ممكن من الضغوط. وأمام اكثر الخيارات تصادمية وسوءا. لاجباره علي تغيير موقفه أو سياساته. والاستجابة لمطالب من يستخدم التكتيك. دون أن يصل إلي نقطة الصدام الفعلية التي يهدد بها. وهذا التكتيك يحمل الكثير من ملامح الارهاب الفكري والنفسي للطرف الآخر. وينجح مع كل من لديه أوراق للتصديق. وللخوف. وللانصياع للتهديدات. وكل من ليس لديه "أوراق" أقوي تساعده علي الصمود ومواجهة التهديدات. وهدف ترامب في كل ذلك. هو أن يحصل لبلاده في النهاية علي اكبر قدر من المكاسب والأرباح من وراء أي اتفاق. عن طريق فرض إعادة التفاوض حوله. وتعديل شروطه وقواعده. تحت شعار "أمريكا أولا" الذي وعد به ناخبيه. وقد تراوحت درجات الاستجابة لهذا التكتيك بين اطراف هذه الاتفاقيات. ولذلك حقق ترامب "بعض" ما سعي إليه وليس كله. والدليل أن اتفاقية التجارة الحرة مع كندا والمكسيك لم تسقط. ولا الشراكة عبر الباسفيك أو عبر الأطلنطي ولا اتفاقية المناخ أيضا. كما ان تمسك ترامب بشعار "أمريكا أولاً" شجع بعض الأطراف علي التمسك بأن تكون أولا أيضا. وقد نجح ترامب بهذا التكتيك مثلا مع كوريا الشمالية فأعلنت استعدادها للتخلي عن برنامجها النووي قبل القمة المرتقبة. لكنه لم ينجح مع الصين في محاولته إعلان الحرب التجارية ضدها لأنها واجهته بمعاملة بالمثل أجبرته علي التوقف تجنبا للخسارة لأن السوق الصيني يمثل للمنتجات الأمريكية مليارا و300 مليون مستهلك. بينما لايمثل السوق الأمريكي للمنتجات الصينية سوي 300 مليون مستهلك. وأمريكا لن تحارب إيران. وكذلك إسرائيل.. فوجود إيران ك"فزاعة" لدول الخليج ولغيرها من الدول العربية مهم ومفيد لأمريكا لأنه يزيد من احتياج هذه الدول للحماية الأمريكية. وبالتالي "الدفع" مقابل هذه الحماية فتزداد مبيعات السلاح الامريكي انتعاشا وتتدفق مليارات الدولارات علي الخزانة الأمريكية. ووجود إيران كفزاعة لهذه الدول ايضا. اكثر أهمية وفائدة لاسرائيل. فهو يرفع عن كاهلها عبء اعتبارها العدو الأول أو الأوحد للعالم العربي. ويوجه بوصلة العداء تجاه إيران كعدو بديل. ليستنزف الطرفان قوتهما في صراع جديد. مثلما حدث في حرب السنوات العشر بين ايران وعراق صدام حسين. دون ان تطلق اسرائيل رصاصة واحدة مباشرة علي ايران. ثم ان اسرائيل لن تحارب إيران التي توجد بها أكبر جالية يهودية بين دول الشرق الأوسط. وينعم أفراد الجاليه هناك بأفضل الظروف الحياتية في ظل نظام الملالي. وقد كان الرئيس ترامب. يتحدث في البداية نظرا لقلة خبرته بالسياسة الدولية عن "إلغاء" الاتفاق النووي مع إيران. ثم اكتشف انه ليس اتفاقا ثنائيا بين أمريكاوإيران. وإنما اتفاق متعدد الأطراف وقعت عليه مع الدولتين كل من روسياوبريطانيا وفرنسا والمانيا بعد مفاوضات مضنية سميت بمفاوضات 1+5 وبالتالي لا تملك أمريكا إلغاءه بقرار منفرد. ولذلك عدل ترامب الالغاء إلي الانسحاب. وقد أحدث قرار الانسحاب الأمريكي انشقاقا "ظاهرياً" مع الشركاء الأوروبيين الموقعين علي الاتفاق: بريطانيا وفرنسا وألمانيا الذين أعلنوا تمسكهم باستمراره والالتزام به ودفعهم لان يصبحوا مع روسيا. الشريك الرابع في جبهة واحدة. وهم من كانوا قبل أسابيع في الجبهة الأمريكية ضدها في قضيتي الكيماوي السوري والجاسوس الروسي المزدوج. وأصف الانشقاق بأنه "ظاهري". لأنه ربما يكون متفقا عليه خلال لقاءات القمة التي عقدها ترامب مع زعماء الدول الثلاث: تريزا ماي - وماكرون وميركل. ليوفروا لايران قدرا من الثقة يسمح لهم بأن يكونوا قناة للتفاوض معها حول شروط أو بدائل جديدة ولايسمحوا لروسيا بالانفراد بها. والواقع أن الانسحاب الامريكي من الاتفاق النووي الايراني. سوف يؤثر سلبا علي امكانية توصل أمريكا إلي اتفاق مع كوريا الشمالية حول أسلحتها النووية والباليستية. لأنه يقلل من مصداقية أمريكا في الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي توقع عليها. وفي المجمل. فان دعوة كوريا الشمالية أو إيران إلي التخلي عن أسلحتهما النووية أو الباليستية لاتحمل أي مصداقية.. أولا لانها صادرة من دول نووية ترفض أصلا التخلي عن ترساناتها النووية.. وثانيا لأنها دعوة انتقائية. وليست في اطار نزع شامل. أو إخلاء إقليمي لهذه الأسلحة.. وفي النهاية. سوف نكتشف ما هو واضح أمامنا من الآن. وهو أن الضغوط الأمريكية علي ايران ليس لانها تهدد العرب. ولكن من أجل الا يكون في الشرق الأوسط سوي دولة نووية واحدة هي اسرائيل. علي حدود ما بعد يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشريف.