يبدو أن النخبة السياسية في أمريكا قد نفد صبرها من تصرفات الرئيس، دونالد ترامب، التي نعتتها أبرز القيادات السياسية بأنها متهورة وصبيانية، فكلما تقدمت الولاياتالمتحدة خطوة إلى الأمام على طريق تسوية خلافاتها مع دول العالم، خرج الرئيس الأمريكي بعنجهية غير مبررة ليعيد الأمور إلى مربع الصفر، الأمر الذي بات يفرض عزلة سياسية عالمية غير مسبوقه على أكبر دولة في العالم، خاصة في ظل معاداتها لمعظم الدول الأوروبية إضافة إلى كوريا الشماليةوإيران وتركيا وسوريا والعراق ولبنان وغيرها من دول العالم. "كيري" يفتح النار على "ترامب" هي محاولة جديدة قادها وزير الخارجية الأمريكي السابق، جون كيري، لإقناع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالتريث بعض الشيء في قراراته وعدم اندفاعه في تصرفات صبيانية ومزاجية لن تؤثر بالسلب سوى على الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، وعلى النفوذ والمصداقية الأمريكية أمام دول العالم، حيث خرج "كيري" عن صمته قبل أيام لتوجيه جملة انتقادات لاذعة للرئيس، دونالد ترامب، وتحدث وزير الخارجية السابق عن ضرورة احترام الاتفاقيات الدولية والمعاهدات التي أبرمتها أمريكا مع دول العالم، متطرقًا إلى الاتفاق النووي الإيراني وضرورة المحافظة عليه وعدم خرقه. كتب "كيري" مقالًا بصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، السبت الماضي، أنه لا ينبغي أن يكون الاتفاق النووي الإيراني لعبة في يد الرئيس الأمريكي أو غيره، وأضاف وزير الخارجية السابق أن الاتفاق النووي الإيراني سيؤول مصيره إلى الكونجرس، لأن أحكام مراجعة الاتفاق بالأصل تم تصديقها في الكونجرس، ولأن الأمن القومي الأمريكي لا ينبغي أن يكون لعبة في يد ترامب، وتابع كيري قائلًا: إذا ما حكمنا بمثالية على الاتفاق النووي فهو أفضل حالًا، خاصة وأن إغلاق المسارات لإيران كان سيفضي إلى حصولها على سلاح نووي. وأوضح وزير الخارجية السابق أسباب تمسكه بالاتفاق ومناداته بضرورة الحفاظ عليه، حيث قال إن هذا التمسك يرجع إلى لقاء سابق مع وزير خارجية إيران في سبتمبر عام 2013، والذي أدرك فيه أن طهران لديها مخزون من اليورانيوم يكفي لصناعة 10 أو 12 قنبلة نووية، وتابع قائلًا: كان ينبغي التحرك سريعًا لتقويض قدرات المفاعلات النووية حتى لا تنتج الماء الثقيل بالقدر الكافي لصناعة أسلحة نووية، خاصة وأنه بتلك الوتيرة كانت ستصبح قادرة على صناعة قنبلتين نوويتين سنويًّا، ومضى كيري بقوله: قضينا آلاف الساعات من التفاوض للوصول لذلك الاتفاق، وحشدت الولاياتالمتحدة وحلفاؤنا الأوروبيون كل قواها للضغط على الدول المترددة في قبول الاتفاق بما في ذلك روسيا والصين والهند وتركيا. وحذر "كيري" الرئيس الأمريكي، من أن إلغاءه للاتفاق النووي مع إيران لن يجعل طهران معزولة عن العالم، بل سيجعل أمريكا نفسها هي المعزولة عن العالم، وأضاف وزير الخارجية السابق: من غير المنطقي أن نترك اتفاقًا يوقف النمو المحتمل للبرنامج النووي الإيراني، لن يكون العالم مرتاحًا لمثل هذا القرار، الذي سيجعل أمريكا معزولة عن العالم بصورة كبيرة، وتابع قائلًا إن المحافظة على الاتفاق هي بالأساس محافظة على النفوذ الأمريكي في أوروبا، مؤكدًا أن إلغاء الاتفاق سيكون رسالة لأي دولة تدرس التفاوض معنا، بأن الولاياتالمتحدة لا تحافظ على كلمتها أو اتفاقياتها. هذه لم تكن المرة الأولى التي يوجه فيها "كيري" سهام انتقاداته الحادة إلى ترامب، فوزير الخارجية السابق سبق أن انتقد الرئيس الأمريكي عندما قرر في يونيو الماضي الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ ومواجهة التغيرات المناخية، حيث وصف كيري ترامب حينها ب"الجاهل الذي لا يعلم ما يقول"، مضيفًا أن ترامب جاء إلى السلطة لوقف التقدم الذي كانت الدولة تحرزه، مؤكدًا أنه "إذا كان العالم يضحك اليوم فإنه يبكي أيضًا على رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية الذي لا يعرف ما الذي يتحدث عنه". مصير غامض بيد المتهور الأمريكي تصريحات "كيري" فيما يخص النووي الإيراني تأتي استباقًا لعملية المراجعة الدورية التي من المقرر أن يجريها الكونجرس الأمريكي حول الاتفاق في منتصف أكتوبر الجاري، حيث من المتوقع أن تقدم وزارة الخارجية الأمريكية شهادتها التي تُجزم بأن إيران لم تلتزم بالاتفاق النووي واخترقت بنوده، والتي تفضي إلى إقناع الكونجرس بالانسحاب من الاتفاق، الأمر الذي يشير إلى أن الأسبوعين المقبلين سيشهدان حملةً سياسية ذات نبرة مرتفعة في محاولة للتأثير على قرار الكونجرس بعدم الخروج من الاتفاق. تتخوف النخبة السياسية الأمريكية في واشنطن من تصاعد دعوات الانسحاب داخل الإدارة الأمريكية من الاتفاق النووي، الأمر الذي سيعني ليس فقط خسارة أمريكا لنفوذها ومصداقيتها الإقليمية والدولية كدولة عُظمى تحترم الاتفاقات التي توقع عليها، بل سيعني أيضًا ربما حالة طلاق بيّن بين الولاياتالمتحدة والدول المشاركة في هذا الاتفاق، خاصة تلك التي أعربت مرارًا عن تمسكها بالاتفاق، وتعهدت بالحفاظ عليه حتى في حال انسحاب أمريكا منه، وعلى رأسها فرنساوروسيا والصين وألمانيا وبريطانيا، الأمر الذي سيشكل عزلة حتمية على الولاياتالمتحدة، على الأقل من الجانب الأوروبي، وهو ما يؤثر بالضرورة على التحالفات التي تشارك فيها واشنطن بعض الدول الأوروبية مثل حلف الناتو الذي يتجه نحو التفكك والشرذمة في الأساس. على جانب آخر فإن انسحاب أمريكا بشكل كامل من الاتفاق لن يقف أمامه الإيرانيون دون رد حاسم، وقد يتمثل هذا الرد في البدء في زيادة التخصيب ومعدلاته، وهو ما هدد به مرارًا كبار المسؤولين الإيرانيون، سواء وزير الخارجية "محمد جواد ظريف" أو الرئيس "حسن روحاني"، الأمر الذي سيفتح على أمريكا المزيد من الجبهات، فستجد نفسها لا تفعل شيئًا سوى محاربة الملف النووي سواء في كوريا الشمالية أو إيران، الأمر الذي قد يؤدي إلى تحالف الطرفين الإيراني الكوري ضد أمريكا، وقد يكون هذا التحالف مدعومًا من بعض الدول التي ستري أمريكا مذنبة بسبب تخليها عن الاتفاق النووي وفتح المزيد من الجبهات الخطيرة على العالم.