* لا تزال تداعيات قرار ترامب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل تدوي ليس فقط في دولنا العربية ولكن في أوروبا وآسيا وأمريكا ذاتها.. وبصرف النظر عن مدي تأثير تلك التداعيات علي ترامب وإدارته فسوف يظل السؤال : ماذا بعد المظاهرات الغاضبة وانتفاضة الغضب الفلسطيني ورفض الشعوب العربية وحكامها نقل سفارة أمريكا للقدس.. هل هذه هي اللغة التي يفهمها ترامب ومستشاروه.. وهل تعادل ردات الفعل العربية الغاضبة تأثير اللوبي اليهودي علي عقل ترامب ومصالحه داخل أمريكا وخارجها . إن قراءة عابرة لشخصية ترامب تدلنا بوضوح أنه شخص مقامر لا يقبل بأنصاف الحلول ولم يخدعنا الرجل كسلفه أوباما بمعسول الكلام ولا بوعود زائفة أو عبارات مراوغة لكسب الود ودغدغة المشاعر بل إن ترامب أعلن منذ بداية ترشحه لرئاسة أمريكا انحيازه الواضح لإسرائيل.. فماذا كنا نتوقع منه غير الذي أقدم عليه.. أليست أوضاعنا العربية تغري خصومنا من كل صوب وحدب بذلك. لا أظن أن المظاهرات ولا تويتات الغضب وبوستاته علي فيس بوك وتويتر سوف تستمر إلي ما لانهاية.. وليس واردًا أن تردع ترامب بيانات الشجب والإدانة الصادرة من هنا أو هناك. وفي القلب منها بيان وزراء الخارجية العرب الذين لم يفلحوا حتي في تحديد موعد عاجل لقمة عربية طارئة.. وحتي لو انعقدت تلك القمة الاستثنائية فماذا ستفعل في ظل خلافات عربية- عربية يصعب تجاوزها للتوافق علي قرارات موحدة تجبر الإدارة الأمريكية أو إسرائيل علي التراجع عن ابتلاع الحقوق العربية.. لم يدخل وزراء الخارجية العرب لاجتماعهم بالجامعة وفي ذهنهم تصور مسبق عن الخطوة التالية . ولا عن موعد اجتماع الرؤساء لاتخاذ الإجراءات الواجبة في مثل هذه الحالات المصيرية قبل ابتلاع القدس وموت القضية المركزية للعرب وهي المسألة الفلسطينية لب النزاع العربي الإسرائيلي..! كنا نرجو أن تكون التحركات الرسمية للعرب مدروسة وسريعة وناجزة لاتخاذ خطوات واقعية علي الأرض لتفريغ هذا القرار الأعمي من مضمونه.. وأن تسارع الدبلوماسية العربية باستخدام شتي أوراق الضغط استثماراً لحالة الرفض العالمي وهذه بيئة مثالية في صالح العرب للقرار الصهيوأمريكي الذي يعد مناهضًا لقرارات الشرعية الدولية كافة منذ وعد بلفور 1917 وحتي وعد ترامب 2017.. كنا نرجو لو كان هناك تحرك عربي واعي ومنظم داخل أمريكا ذاتها بحملة علاقات عامة يستطيع العرب تمويلها لشرح حقيقة الموقف للشعب الأمريكي. وكيف أن ترامب بقراره المجحف هذا يخرب المصالح الأمريكية في المنطقة. ويضر بسمعتها في العالم بحسبانها دولة مارقة منقلبة علي الإرادة الدولية وقرارات الأممالمتحدة ومجلس الأمن فيما يخص فلسطين .ويزيد وتيرة العنف والتطرف في العالم كله . ناهيك عن نسف اتفاقات السلام التي كانت واشنطن الراعي الرسمي لمفاوضاتها من لدن نصر أكتوبر وحتي اليوم . كنت أرجو لو تحركت الدول العربية في مسار قانوني موازي يبين للعالم أجمع وللرأي العام الأمريكي تحديداً كيف أن القرار "الترامبي¢مخالف لكافة مواثيق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف ولاسيما ما يخص حقوق الشعوب في تقريرها مصيرها.. فكيف يعطي من لا يملك أرضًا ومدينة بهذه القداسة وتلك المكانة التاريخية والدينية لمن لا يستحق.. وهو الكيان المغتصب والاحتلال العنصري البغيض الذي يخطط لإقامة دولة دينية مناهضة للمدنية والحضارة والمواطنة وحقوق الإنسان التي تتشدق أمريكا بأنها الراعي الرسمي لها . كنا نرجو لو بادرت بعض الحكومات العربية باستخدام أرصدتها المالية الضخمة في أمريكا كورقة ضغط اقتصادية علي ترامب .. لكن لا شيء من هذا حدث.. وبقينا نراوح مكاننا للأسف.. الشعوب الغاضبة في جانب.. والحكومات الرافضة في جانب آخر.. وبينهما تتحرك الآلة الصهيونية الجبارة لالتهام ما بقي من الحقوق العربية . كثيرة هي إخفاقات العرب في العصر الحديث.. وكثيرة هي نكباتهم.. ومردها جميعًا إلي التخلف العلمي للإنسان العربي الذي تراجع عن مواكبة العصر في التفكير والانجاز والإنتاج وحتي ردود الفعل.. أهملنا العلم فخسرنا الحاضر وخاصمنا المستقبل... فشلت القمم العربية في لم الشمل وتوحيد الصف والنفاذ بعمق إلي أولويات الضرورة . فلا تكاملنا اقتصاديًا رغم توفر مقومات هذا التكامل. ولا توحدنا عسكريًا خلف قوة ردع مشتركة رغم ما نملكه من تسليح وجيوش . ولا استطعنا ردم الفجوة العلمية والتكنولوجية والنووية مع العالم المتقدم ولا مع إسرائيل التي تتفوق وحدها علي العرب مجتمعين.. ولا نجحنا في تحقيق اكتفاء ذاتي من الغذاء والدواء والطاقة والتسليح ولا حتي في ورق الطباعة . كثيرة هي محطات السلام الفاشلة التي ارتادتها القضية الفلسطينية منذ مؤتمر مدريد 1991 مرورًا باتفاقات أوسلو 1993 . وطابا 1995 . وواي ريفر 1998 وشرم الشيخ 1999 وليس انتهاء بمبادرة السلام العربية المأمولة 2002. وهي محطات لم تنقذ عملية السلام بقدر ما أدخلتها إلي نفق مظلم يكسب منه الإسرائيليون ويخسر العرب . وما خلا نصر أكتوبر 1973 ومفاوضات استرداد الأرض المصرية فكل الذي خاضته الدبلوماسية العربية مع إسرائيل باء بالخسارة وحلت الكوارث علي عالمنا العربي بدءًا بحرب الخليج وغزو الكويت وتحريرها وضرب العراق ومرورًا بثورات الخريف العربي التي لم يستفد منها سوي أعداء هذا الوطن الذين خططوا ونفذوا وكسبوا بينما انتكست أمتنا وصارت دولها إما مفككة متناحرة مثلما حدث في ليبيا وسوريا والعراق واليمن أو تصارع للبقاء أو مهددة في أمنها ومستقبلها . التوقيت الذي اختاره ترامب لقراره المشئوم جري اختياره بعناية فمصر مشغولة بحرب الإرهاب في سيناء والخليج غارق في خلافاته مع قطر..واليمن ممزق.. والعراق يلملم شتاته بصعوبة.. وليبيا وسوريا تحاولان استجماع ما بقي من قوتهما.. استثمر ترامب هذا الظرف القلق المضطرب عربيًا لمغازلة اللوبي اليهودي المناصر لإسرائيل وكسر عزلته الداخلية ومطاردته بقضايا العزل من المنصب باتهامات تتعلق بالتعاون مع روسيا. ترامب علي علم بأدق تفاصيل الخلافات العربية العربية وربما يكون هو من أشعلها وفجرها محاولاً الاستفادة من كل أطرافها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة . ولم لا وهو يتعامل مع السياسة والعلاقات الدولية بمنطق التاجر الذي همه المكسب والمكسب فقط.. المدهش أن بعضنا يتعامل مع قرار ترامب ومنطقه وكأنه مفاجأة وليس تطبيقًا أمينًا لما صرح به خلال حملته الانتخابية . وكأن الكونجرس لم يصدر قانون ¢جاستا ¢لمعاقبة العرب بزعم رعاية الإرهاب وكأن الكونجرس لم يصدر قانونًا سابقاً علي رئاسة ترامب لأمريكا يسمح بنقل سفارتها للقدس !! قرار ترامب الأحادي يخرج أمريكا من دائرة النزاهة ويجعلها وسيطًا غير مؤتمن بل منحازًا لإسرائيل بلا مواربة ومن ثم فلا يتصور عاقل. فضلاً علي أن يكون صاحب حق يراد هضمه أن ترد إدارة ترامب الحق لأصحابه.. ولا يبقي للعرب إذا كانوا جادين في مسعاهم لاسترداد وإبطال قرار ترامب الظالم إلا التحرك بوعي وقوة في الأوساط الدولية لدي الأممالمتحدة ومجلس الأمن والقوي الرافضة للقرار الأمريكي. وفي القلب منها الاتحاد الأوروبي وروسيا ليس لاستبدال وسيط بآخر ربما لا يكون أفضل منه.. لكن لانتزاع قرار أممي يبطل قرار ترامب. وتشكيل جبهة دولية غير منحازة لترعي عملية السلام بنزاهة وموضوعية.. فإذا كانت هذه هي بداية تعامل ترامب وإدارته مع النزاع العربي الإسرائيلي . فكيف نتوقع شيئًا مغايرًا أو مساراً غير منحاز لإسرائيل مستقبلاً.. أمريكا لم تعد ¢أمينة ¢علي حقوقنا المهضومة.. والاستسلام لهذا المسار الخاطئ معناه التسليم والاستسلام للإرادة الصهيوأمريكية الراغبة في تمكين ¢اليهود ¢من حلمهم المزعوم بدولة تمتد من النيل إلي الفرات.. ولتكن رسالتنا لواشنطن : كفوا عن الاعتداء علي حقوقنا..لسنا في حاجة إلي وساطتكم المجحفة ! وكفانا ما تجرعناه من حسن الظن برؤساء أمريكا السابقين وآخرهم ¢أوباما ¢المراوغ الذي خدعنا ببشرته السمراء وجذوره الإفريقية وكلماته المعسولة التي تفاءلنا بها . فإذا به وهو الحائز جائزة نوبل للسلام قد تورط في قتل السلام وتفجير المنطقة العربية وإغراقها في الصراعات والتناحرات والثورات والاضطرابات ليتسلمها خلفه ترامب ¢لقمة سائغة ¢سهلة الابتزاز والتوجيه !! أوباما نجح في توظيف ¢هبات الشارع العربي ¢وتيارات العنف المتأسلم لتدمير دولنا من الداخل. وتشويه الصورة الناصعة ¢للإسلام ¢الذي هو بريء ككل الأديان السماوية من الإرهاب والعنف السياسي.. كما استخدم ورقة "حقوق الإنسان ¢لابتزاز دولنا ومحاولة اختراقها بيدي حفنة من أبنائها . تارة باسم الدين . والمذهب . وتارة باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان . لم يخف أوباما وإدارته كما كان سلفه بوش وإدارته رغبتهما في إحداث "فوضي خلاقة¢في عالمنا العربي دون سواه . وعمل علي بث سموم الكراهية عبر ما يسمونه نظريات ¢صرع الحضارات "و¢نهاية التاريخ¢وكثيرًا ما بشرنا بالتغيير ¢وهو قطعًا تغيير موازين القوي لصالح إسرائيل . تغيير خرائط الدول عبر إعادة تقسيمها وتفتيتها وليس ذلك سرًا بل أمرًا معلومًا تتناقله مواقع الإنترنت ومراكز الأبحاث الدولية وما نري نتائجه في اليمن والعراق وليبيا بلا مواربة . لا نلوم أوباما علي خداعه لنا بل نلوم أنفسنا أننا فهمنا كلامه وخطابه بجامعة القاهرة علي طريقتنا.. نلوم أنفسنا علي أننا فرطنا في حقوقنا وسيادتنا وزججنا بأنفسنا والمنطقة في أتون حروب لا ناقة لنا فيها ولا جمل ثم ها هو ترامب يحاول فرض سياسة الأمر الواقع علينا ابتغاء مرضاة اللوبي اليهودي الداعم لإسرائيل في أمريكا . المتعصبون منا للمذهب أو الطائفة أو الجماعة أو المصالح الضيقة والفاسدون المفسدون قد أضاعوا الأوطان وجعلوها لقمة سائغة علي مائدة الأعداء. ولو لم نستفق جميعًا ونعيد ترتيب أوراقنا بسرعة في مواجهة هذا الإعصار ¢الترامبي ¢المجنون فلا نلوم إلا أنفسنا.. والتاريخ لن يرحم المتخاذلين !! علي أصحاب القضية أن يتوحدوا وينبذوا خلافاتهم ويتفقوا علي خطة موحدة للمواجهة.. فما لم يجد ترامب وحلفاؤه وقادة إسرائيل ما يجبرهم علي التراجع وفسوف تضيع الحقوق العربية واحدًا تلو الآخر !! علي الشعوب العربية أن تبقي جذوة المقاومة والرفض مشتعلة وحاضرة بقوة . وعلي الحكومات العربية استثمار الموقف الدولي الرافض لقرار الإدارة الأمريكية . واستخدام أوراق الضغط دون خشية رد الفعل الأمريكي.. وعليها أولاً أن تتم المصالحة الفلسطينية والعربية وإلا فإنهم يهيئون بأيديهم المسرح لإسرائيل التي لم ترحم أحدًا. وستحاول بمعاونة أمريكا التهام ما تصل إليه يداها من الأرض والحقوق العربية.. أفيقوا يا عرب ولا تركنوا إلي الجلاد فتجعلوه ¢حكمًا¢بينكم وبين غيركم.. أفيقوا قبل أن تلتهم الصراعات ما بقي من دولكم واحدة بعد الأخري ويصبح التقسيم أمرًا واقعًا وتقرير المصير حلمًا تعجزون عن تحقيقه.