يزعم البعض أن القدر يسلبهم الاختيار في اعمال الطاعات. فلو قيل لأحدهم: قم إلي الصلاة. قال: حتي يقدر الله لي. أو حتي يريد الله. ولو نهيت رجلاً منهم عن شرب الخمر لقال:هذا كتبه الله عليّ ولم يقدر لي تركه بعد... وغير ذلك من الضلالات. وتري هؤلاء إذا أصبح الصباح نهضوا إلي أعمالهم وتجاراتهم بكل نشاط ولم يقعدوا ولم يقولوا: حتي يقدر الله أو حتي يريد الله. فتراهم في أمور الدنيا والملاهي يضعون القدر وراء ظهورهم ولا يبالون به. ولما يطلب منهم فعل الخيرات والطاعات يضعون القدر أمامهم حاجزاً مانعاً. وقد ذكرهم الله تعالي في محكم تنزيله في سورة يس:"وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه..." ولو كان القضاء والقدر حجة للبعد علي فعله المنكرات والمعاصي لاحتج به أهل النار من الكفار والفجار. ولاعتبروه مبرراً لأفعالهم. ولكنهم قالوا كما أخبر سبحانه عنهم فقال جل وعلا في سورة تبارك:"...كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلي قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم إلا في ضلال كبير". فهذا هو ذنبهم الذي حتم عليهم دخول النار. ولم يقولوا: إنهم اجبروا علي الكفر والفسوق. بل إنهم اعترفوا وأقروا أنهم دخلوا النار بعدل الله تعالي ولم يظلمهم سبحانه بقضائه وقدره. فقالوا كما اخبر سبحانه عنهم في سورة الزمر:"وسيق الذين كفروا إلي جهنم زمراً حتي إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلي ولكن حقت كلمة العذاب علي الكافرين". أي: اعترفوا أنهم دخلوا النار بالحق وإن العدل من صفات الكمال ويحمد العادل في أحكامه علي عدله. ولذلك لما قضي سبحانه بين الخلائق بالعدل والحق جعل كل مخلوق يحمده. يقول الحق جل جلاله في سورة الزمر:"وتري الملائكة حافين من حول العريش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين". أي: قال كل قائل في ذلك الموقف. وهو موقف فصل القضاء: الحمد لله رب العالمين. وفي ذلك الموقف العظيم الذي يفتح الله تعالي فيه لعباده باب المجادلة والاعتذار والإدلاء بالحجة تري أن الكفار والعصاة لم يذكر أحد منهم عذراً بأن قضاء الله تعالي وقدره اجبره علي الكفر أو فعل المعصية. ولو كان ذلك عذراً لهم لاحتجوا به في ذلك الموقف. ولكن الموقف موقف تحق فيه الحقائق وتظهر الدقائق فلم يسعهم إلا الاعتراف بأنهم هم الذين كفروا وأجرموا باختيارهم ومشيئتهم. ولم يسلبهم القضاء اختيارهم ولم يجبرهم علي فعل المعاصي. يقول الشيخ الإمام عبدالله سراج الدين في كتابه "الإيمان بالقضاء والقدر": .. وكما اثبت سبحانه للكفار اعمالاً حتمت عليهم دخول النار. فقال سبحانه في سورة النمل:"ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون" فقد اثبت سبحانه للمؤمنين اعمالاً دخلوا الجنة بسببها. فقال تعالي في سورة الزخرف:"وتلك الجنة التي آورثتموها بما كنتم تعملون". أي:أنتم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فصرتم أهلاً لفضل الله عليكم بالجنة. ولو كان قضاء الله يجبرهم علي الايمان وفعل الصالحات لما اثبت لهم سبحانه عملاً لأنه ما وجه تفضيلهم علي غيرهم عندئذ؟ وهو سبحانه يزيد أهل الإيمان من فضله كل علي حسب إيمانه وتقواه كما قال تعالي في سورة النساء:"فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله.."