الاتحاد الأوربي وبريطانيا لم يعجبهما أحكام القضاء المصري فيما يخص التحفظ علي أموال بعض قيادات المنظمات الحقوقية في مصر.. وبصرف النظر عما ورد من حيثيات في هذا الحكم والذي لا يجوز لأحد مهما يكن هنا أو هناك أن يتدخل فيه تعليقًا أو انتقادًا إلا بطريق قانوني مشروع عبر مسالك القضاء وآلياته القانونية.. فإننا نسأل هؤلاء المنتقدين: هل تسمحون لأحد بالتدخل في شئونكم أو أحكام قضائكم.. وإذا كان مثل هذا المسلك المعيب محرمًا حتي علي مواطنيكم فما بالنا لو صدر عن آخرين من خارج حدودكم كما تفعلون أنتم الآن مع مصر.. وهل رقَّت قلوبكم فعلاً لحقوق الإنسان المصري بينما لم يطرف لكم جفن حين جري تدمير العراق وسوريا وليبيا تحت أعينكم وبدعم من دولكم التي شاركت أو غضت الطرف عن ذلك التدمير الذي لحق بالعالم العربي ومزقه شر ممزق فيما عُرف بالربيع العربي؟! لا عجب أن يعلو الصياح والصخب من جديد بعد صدور أحكام القضاء بشأن مخالفات وتجاوزات بعض منظمات المجتمع المدني في مصر. وهو صياح ينبغي ألا نفصله عما أثاره قيادات تلك المنظمات من عويل وضجة أثناء مناقشة قانون الجمعيات الأهلية تحت قبة مجلس النواب. وهو الصراخ الذي ملأ فضاء بعض الشاشات والصحف والمواقع الإلكترونية الموالية اعتراضًا ورفضًا لهذا القانون. وهو ما وجد صدي خارجيًا تجلي في ردود أفعال الاتحاد الأوروبي وبريطانيا الآن.. وهو ما يمثل استقواءً بالخارج الذي تعد تلك المنظمات إحدي أذرعه وأدواته للتدخل في شئوننا الداخلية بتقديمها تقارير وأسانيد يرتكز إليها في إدانة أوضاعنا الداخلية. مستندًا إلي الأكاذيب والشائعات والتقارير المغرضة. وإذا كان الحكم عنوان الحقيقة. فإن الرجوع لملف التحقيقات وحكم القضاء في قضية التمويل الأجنبي يظهر حقائق تقشعر لها الأبدان. وتنكشف معها عورات تلك المنظمات وسوءات القائمين عليها وأغراضهم الحقيقية. ودوافع أصحاب التمويل من وراء ضخ تلك الأموال. وماذا فعل بها قيادات المنظمات التي تلقت هذا التمويل ؟! بعد ثورة يناير 2011 وقبلها قدمت أمريكا ملايين الدولارات لتلك المنظمات بحجة نشر قيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان.. هذا هو الشعار البراق الذي يعمي الأبصار.. وذلك هو الستار الذي تتخفي في ظلاله الأهداف الحقيقية لهذا التمويل السخي. إذ تمارس هذه الكيانات مهامها في جمع معلومات دقيقة عن كافة مناحي الحياة في مصر.. وهذا ليس كلامًا مرسلاً بل حقائق سطرتها يد القضاء المصري النزيه حيث قالت محكمة جنايات القاهرة في حيثياتها ناصعة البيان في قضية التمويل الأجنبي: ¢ إن هذا التمويل هو أس البلاء. فالدول الأجنبية لا تنفق أموالها ابتغاء تحسين حالة حقوق الإنسان في بلد ما. ولا تمد يد العون لأهلها خصوصًا دول الغرب التي لم تكفِّر حتي هذه اللحظة عن جرائمها إبان عهود الاستعمار ¢. الأمر الذي حدا بالمحكمة أن تطالب النائب العام بالتحقيق مع المنظمات والجمعيات التي طلبت تمويلاً من بعض الدول العربية والأجنبية بعد الثورة والتي ورد ذكرها في تقرير تقصي الحقائق والتحقيق مع كل من مكَّن المتهمين الأجانب من الهرب خارج البلاد في غضون التحقيق في القضية¢. وأقرت المحكمة بأن ¢ التمويل شكل من أشكال السيطرة والهيمنة الجديدة. وهو ما يعد استعمارًا ناعمًا أقل كلفة من حيث الخسائر والمقاومة من الاحتلال العسكري تنتهجه الدول المانحة لزعزعة أمن واستقرار الدول المستقبلة للتمويل والتي يراد إضعافها وتفكيكها. وأنه لا يتصور عقلاً ولا منطقًا بأن لأمريكا أو لغيرها من الدول الداعمة للكيان الصهيوني أي مصلحة أو رغبة حقيقية في قيام ديمقراطية في مصر. وأن من يدفع المال إنما يدفعه لخدمة أجندته الخاصة المحددة بدقة والمراد تحقيقها والتي تتناقض أو تتقاطع حتمًا مع الأهداف النبيلة للمنظمات التطوعية الساعية إلي توعية وتطوير المجتمع والدفاع عن حقوقه الإنسانية ومصالحه. ورأيي أن المحكمة قد أصابت كبد الحقيقة. وعبرت بأمانة وصدق عما يجيش بصدور ملايين المصريين حين وضعت يدها علي كوامن الداء والبلاء. فليس هناك من يدفع أموالاً بلا هدف. فالدول ليست جمعيات خيرية تدار بمنطق الصدقة والإحسان. لاسيما إذا كان لهذه الدول مصالح وتاريخ أسود في الاستعمار واستغلال ثروات الغير. وتدمير فرصه في التقدم وربما في الحياة. كما أنه ليس مستساغًا أن تتلقي جمعيات أهلية في دولة تمويلاً من المانحين في دولة أخري من وراء ظهر القانون بمعزل عن الشفافية التي هي أحد أهم ركائز الديمقراطية الحديثة. وهو الأمر الذي حاول القانون الأخير للجمعيات الأهلية مراعاته. ووضع ضوابطه سواء اتفقنا أو اختلفنا حول مواد هذا القانون. نعود إلي بيان الاتحاد الأوربي وبريطانيا ونسأل المشككين والمنتقدين للأحكام القضائية: هل تقبل أعتي الدول الديمقراطية أن يطال أحكامها القضائية مثل هذا النقد أو التطاول.. وهل يمكن أن تقوم لأي دولة قائمة إذا ما صار قضاؤها مستباحًا للتشكيك والرفض من جانب البعض.. وهل نجد في أدبيات الديمقراطية الحديثة مثل هذا المسلك المعيب.. وماذا يعني استقلال القضاء في عرف هؤلاء.. وهل تسمي ¢ديمقراطية¢ تلك الدول التي تُسيس فيها أحكام القضاء. أو يجري التأثير في قناعات قضائها وترهيبه وإثارة المطاعن في أحكامه..؟! وهل من مقتضيات العمل الأهلي إثارة الفتن وزعزعة استقرار الدول واختراق أمنها القومي تحت ستار ¢حقوق الإنسان¢ التي ترتبط منظماتها بأجهزة استخبارات. لا يمكن إحسان الظن بها.. وهل من حقوق الإنسان جمع معلومات وبيانات عن مصر وأحوالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. واصطناع خرائط جديدة تستهدف تقسيمها لدويلات طائفية أو عرقية.. ولماذا التركيز علي الحقوق المدنية والسياسية وإغفال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان المصري في عمل وأجندات تلك المنظمات الممولة أجنبيًا. أم أنها شروط الممول وأجندته التي تستهدف ممارسة الضغط علي مصر وابتزازها في المحافل الدولية وبين أروقة المنظمة الأممية.. أليست هذه انتقائية فجة تهدف لتحقيق أهداف الدول المانحة للتمويل وليس تحسين حالة الإنسان المصري الذي تتباكي علي انتهاك حقوقه.. بينما لم تضبط واحدة من تلك الجمعيات تتبرع لإنشاء مدرسة أو مستشفي أو تطوير منطقة عشوائية وعلاج ما فيها من فقر ومرض وجهل. أو توفر فرصة عمل لشباب عاطل. أو منحا دراسية في البلاد المانحة للتمويل. وإنما اكتفت بأن تتاجر بهذه الحقوق لتحقيق مصالحها.. فهل تقبل تلك الدول ومنظماتها المانحة للتمويل بمبدأ المعاملة بالمثل.. هل تسمح بأن ينشأ علي أرضها جمعيات مماثلة ممولة أجنبيًا لممارسة الفعل نفسه أم أنها الانتهازية والاستعلاء والهيمنة وانتهاك سيادة الدول التي تعاني ظروفًا صعبة..؟! لاشك أن الأنظمة السابقة عندنا ارتكبت خطأ فادحًا حين سمحت لمثل تلك المنظمات الأجنبية وفروعها بالتغلغل داخل مصر. وغضت الطرف عنها حتي تفاقمت الأمور بعد ثورة يناير وما صاحبها من انفلات أمني سهل عمليات اختراق الحدود وتهريب السلاح ودخول الإرهابيين إلي سيناء. وكيف لعبت المنظمات الأجنبية والجمعيات المحلية أدوارًا خطيرة في نشر الفوضي وتشويه صورة مصر وترويج معلومات خاطئة والعبث بأمن البلاد والعباد. في مصر 47 ألف جمعية أهلية بينها عشرات المنظمات الحقوقية مثار الجدل والتي حصل بعض قياداتها علي تمويلات ضخمة لم يشعر أحد بأي أثر لها في خدمة مصر. بل دخلت تلك الملايين في حساباتهم الخاصة.. ولهذا انتفضوا ضد القانون الجديد للجمعيات الأهلية.. فماذا فعل هؤلاء بهذا التمويل.. هل أسهموا في مشروعات خيرية أم أنفقوه علي اجتماعات وندوات وتقارير تسئ لمصر دوليًا.. وماذا يضير هؤلاء لو عملوا تحت مظلة الدولة ووفق قوانينها وتحت بصرها بضوابط إدارية ورقابية في تلقي التمويل الأجنبي وإنفاقه حسبما هو سائد في شتي دول العالم أم يريد هؤلاء العمل مع الدول الأجنبية من وراء ظهر الحكومة ودون علمها؟! قانون الجمعيات الجديد يبدو أنه يمثل مشكلة لدكاكين حقوق الإنسان التي يريد أصحابها تلقي الملايين والتصرف فيها دون ضوابط ولا رقابة من أجهزة الدولة.. أروني دولة تسمح بهذا؟! الدفاع عن الحريات والحقوق أمر محمود ونشاط مشروع إذا جري في النور وتحت إشراف الدولة. وهو ما يحاول القانون الجديد تكريسه في المجتمع فليس مقبولاً أن تتسرب ملايين الدولارات إلي أسماء وهمية وجمعيات مشبوهة تحت أستار العمل الأهلي.. فمن حق الدولة كسلطة أن تراقب مسارات أي تمويل أجنبي.. أما أن يخرج علينا الاتحاد الأوربي وبريطانيا بتعليقات علي حكم قضائي بالتحفظ علي أموال بعض مسئولي المنظمات الحقوقية في قضية التمويل الأجنبي فذلك ليس مقبولاً.. وحسنًا ما فعلته الخارجية المصرية التي استنكرت بقوة ما جاء في هذا البيان وردت عليه بحسم.. بقي أن نقول إن تحسين حالة حقوق الإنسان أمر لا غبار عليه لكن بطرق مشروعة وحبذا لو كان التمويل محليًا.. ولتكن تجارب الدول المتقدمة نموذجًا يحتذيه الحقوقيون عندنا.. فهل هناك مثلاً منظمة حقوقية في أمريكا أو أوربا تتلقي تمويلاً أجنبيًا من الصين أو روسيا أو العكس.. لماذا لا يحدث ذلك إلا في عالمنا العربي.. ابحثوا عن مصادر تمويل آمن بدلاً من السباحة ضد التيار. والنزول إلي مواضع الشبهات إن كنتم حقًا تدافعون عن حقوق الناس.