لو كنت مكان السيد وزير التعليم لتقدمت باستقالتي فوراً إلي رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب بعد أن أعلن علي الرأي العام المصري أني استقلت لأني عجزت عن أن أحمي عقل ومستقبل مصر من الجور والتعدي الآثم وعجزت عن أن أمنعها من أن تصبح دولة يحتقر فيها المعلم ويستهان بمكانة المدرسة ولا تدرك أغلبيتها الأهمية القصوي لعملية التعليم في نهضة الأوطان! ولقلت في إعلان استقالتي أن الأمم لا يمكن أن تتقدم خطوة إذا حكم جانب مهم من مدارسها ومعاهدها وجامعاتها الابتذال والعبث حيث يهان في كل يوم العلم والمعلم ولكوني غير قادر علي حماية المدرسين في وزارتي من انتهاك إنسانيتهم وإهدار كرامتهم والإساءة إلي واحدة من أنبل الرسالات وأرفع الغايات التي أمثلها التعليم! وأكبر دليل علي هذا الابتذال وذلك العبث الذي أصاب العملية التعليمية برمتها هو الحادث المشين الذي تداولته الصحف "الوطن يوم الثلاثاء 18 نوفمبر" والمتمثل في قيام أحد مدرسي مدرسة "القوصية" الثانوية بنين بأسيوط "محمد.ع" بطرد طالب من الفصل لسوء أدبه بعد أن سب أستاذه أمام زملائه فما كان من هذا التلميذ البائس إلا الاتصال هاتفياً ب"السيد الوالد" الذي تهجم علي المدرسة وتجرأ علي صفع المدرس قبل أن يشل حركته آمراً ابنه أن يصفع أستاذه أمام تلاميذ فصله وفي حضرة نفر من زملائه من مدرسي المدرسة.. وقد حدث!! والله أيها السادة لو أقسمت لنا الوزارة أنها تصرف عشرات المليارات من الجنيهات علي "العملية التعليمية" كل عام وهو أمر واقع بالتأكيد لما هز هذا الأمر في اعتقادنا شعرة وهو اعتقاد قائم علي حقيقة بسيطة مفادها: أن المدرس هو ركيزة العملية التعليمية وأداتها الرئيسية وروحها وباعث الحياة فيها والعلم هو سر تقدم الأمم ونهضة البنيان فإذا ما اعتدي طالب أو مواطن أو مسئول علي "المدرس" فلا تعليم ولا "دياولو" وقل علي الأرض السلام! "من علمني حرفاً.. صرت له عبداً" يقول المثل المعروف وحفظنا ونحن صغار بيت الشعر الشهير: "قف للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولاً" ولكن للأسف الشديد مضي ذلك الوقت الذي كان فيه للمعلم مكانته الرفيعة يحترمه الجميع ويقدرون دوره في الأسرة والشارع وتحوطه علامات الإكبار في كل مكان يحل فيه ويلجأ إليه الناس للاستنارة برأيه ثقة فيه وفي أمانته وحكمته! كان مجتمعنا علي محدودية إمكاناته مجتمعاً واعياً واعداً يحترم العلم والمعرفة ويدرك أنهما وسيلة التقدم والصعود الإنساني والاجتماعي ومن ثم حفظ للأستاذ مكانته الرفيعة وقدره السامي وكان أهم ما كانت تحرص عليه الأسر المصرية كافة فقيرها قبل غنيها هو أن تعلم أبناءها تتجشم في ذلك مر العناء وتتحمل من أجل تحقيق هذا الأمر صنوف التقيير والحرمان لأنها كانت تعرف أن العلم والعمل هما جناحا كل مجتمع فتي يسعي للتقدم ويهم للثورة علي الجهل والتخلف! انقضي ذلك الزمن الجميل مع مجيء عهد الانفتاح الاقتصادي الذي حول كل قيمة نبيلة في المجتمع إلي تجارة مفتوحة علي كل شيء فرأينا العلم والمعرفة وقد أصبحتا سلعة تباع وتشتري لمن يملك الثمن مثلها مثل الزلط والأسمنت دون تفرقة ونزل المعلم من مكانته السامية إلي عرض الشارع يطرق الأبواب في مهانة بائعاً لعلمه ومتاجراً في معرفته بعد أن اجتاحته موجات الانفتاح "السداح مداح" بقوانينه البشعة وآلياته المخربة! والآن أيها السادة: إذا لم تهتز الأرض احتجاجاً علي صفع التلميذ لأستاذه في حضرة السيد المربي الفاضل والده "المحترم" فقولوا علي الأرض السلام وأحذركم أن كل محاولة للبناء لا ترتكز علي أساسها السليم لن يستقيم لها عود ولن تصمد في مواجهة عاديات الزمن.