من روائع الاعجاز اللغوي في القرآن الكريم. علي صعيد استثمار دلالات لصيغ في تحقيق روح الاعجاز في بناء الأنساق الاسلوبية. أن القرآن الكريم يعبر بالفعل حين يقتضي كل من السياق او المقام. أو الحال ذلك ويعبر بالاسم حين تتطلب تلك الأمور التعبير بالاسم. وتلك روح اعجازية ربانية تسطع في آفاق القران الكريم كله "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا". * ومن أبرز الشواهد التي تعكس هذه الظاهرة الاعجازية قول الله سبحانه "ذلك لم يكن ربك مهلك القري بظلم واهلا غافلون" الانعام/131 حين يأمله بازاء قوله تعالي "وما كان ربك ليهلك القري بظلم واهلها مصلحون" هود/117 .. فنحن حين نتأمل هاتين الايتين الكريمتين. نلحظ تشابها في المحتوي والمضمون حين نجد تنوعا في تشكيل النسق الاسلوبي بينهما. ومن هذا التنوع. * أن النفي في الآية الأولي جاء علي صورة الحرف "لم" مع الفعل المضارع "يكن" في حين جاء النفي في الاية الثانية علي صورة الحرف "ما" مع الفعل الماضي" كان ثم تليهما لام الجحود. والفرق ان الحرف "لم" حين ينفي المضارع يقلب معناه الي الماضي. فحين اقول لم اشرب فمعني الكلام نفي حدوث الشرب فيما مضي. وقد استعمل القرآن الحرف "لم" في سورة الانعام. لان مضمون الكلام قد تم وحصل في الدنيا لان السياق سياق مشهد من مشاهد يوم القيامة والكلام عما كان في الدنيا لذلك كان الملائم استخدام حرف النفي الذي يقلب المعني الي الماضي. أما في سورة هود فقد استخدم ما فوق النفي وهو الجحود والجحود حين تدخل علي المضارع تفيد امتداد شدة النفي لتشمل المستقبل. وكان ذلك ملائما للسياق في سورة هود لان السياق فيها يحلق في افاق هذه الحياة وشئونها وذكر سنة الله في الامم. وذلك امر مستمر وماض في المستقبل ليوم القيامة. * ثم تطالعنا في الايتين صيغتان تعبيريتان احداهما صيغة اسمية وهي التي في آية الانعام "مهلك" والاخري صيغة فعليه وهي التي في سورة هود "ليهلك" وانما جاء التعبير في سورة "الانعام" بالصيغة الاسمية "مهلك" لانها في سياق احد مشاهد يوم الدين. وهو حديث عما كان في الدنيا. فهو حديث عن امر مضي واستقر وثبت وانهي فالصيغة الاسمية هي التي تلائم هنا لدلالتها علي الثبوت اما في سورة "هود" فالامر مختلف.. ان الحديث هنا في سياق الدنيا وسنن ببقاء والامم تحدث وتجدد وتهلك وتتجاذبها الاحداث وتتقاذفها المتغيرات امة تزدهر وامة تندثر. وحضارة تنتشر واخري تنحسر فالتغير والتجدد ماثل متجسد في هذا السياق في سورة "هود" ولذلك كان الاعجاز ان يتم للتعبير بالصيغة الفعلية التي تدل علي التجدد والحدوث. ذلكم هو القرآن الكريم: "كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير"