الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية هذه حقيقة يعلمها الناس ويدعو اليها الشرع لكن الواقع يكذبها بشدة بدليل ما يحدث صباح مساء من حراك وتنابز بالالقاب لمجرد الاختلاف في وجهات النظر بالنسبة للمسألة الواحدة. العلماء يدعون إلي أهمية تربية النشء علي قبول الاختلاف وتعوده حتي نتخلص من آفة الصراع لمجرد الاختلاف في الرأي. يقول الدكتور إبراهيم عبدالشافي أستاذ العقيدة والعميد السابق لكلية الدراسات الاسلامية والعربية بجامعة الأزهر: تعدد وجهات النظر فيما عدا ما هو معلوم من الدين بالضرورة.. أمر طبيعي اذ لو كانت النصوص كلها قطعية الدلالة ما حدث الاختلاف علي الاطلاق.. لكن المشكلة التي نعاني منها كثيرا ان البعض لايعرفون الا منهجا واحدا ومدرسة واحدة.. لا يبالون ولا يكترثون بمن يخالفهم في وجهة نظرهم بل يري البعض ان العدول عن رأيه ومدرسته فسق ومروق من الدين ولعل هذا هو الذي جعل الامام الغزالي يقول: "ولعلك ان ا نصفت.. علمت ان من جعل الحق وقفا علي واحد من النظار بعينه.. فهو إلي الكفر والتناقض أقرب.. أما ابي الكفر فلأنه أنزله منزلة النبي المعصوم من الذلل الذي لا يثبت الايمان الا بموافقته.. ولا يلزم الكفر الا بمخالفته.. وأما التناقض فهو أن كل واحد من النظار يوجب النظر.. وأن لا تري في نظرك الا ما رأيت.. وكل ما رأيته رجحته.. وأي فرق بين من يقول قلدني في مجرد مذهبي وبين من يقول قلدني في مذهبي.. ودليلي جميعا.. وهل هذا الا التناقض؟! وقال د. عبدالشافي: ان الاختلاف في الآراء والأفكار ينبغي الا يؤدي إلي الشحناء والبغضاء واختلاف القلوب.. و الذي يؤدي بطبيعة الحال الي الفرقة وهي خطر داهم يهدد ايماننا جميعا وذلك انطلاقا من قول سيد الخلق صلي الله عليه وسلم "لا تدخلوا الجنة حتي تؤمنوا ولا تؤمنوا حتي تحابوا.." رواه مسلم.. لذلك فان الايمان كما هو معلوم شرط في دخول الجنة. وحب المسلمين بعضهم لبعض شرط لكمال الايمان. وبين د. ابراهيم عبدالشافي انه اذا كان منع الاختلاف في أمورنا أمرا مستبعدا وغير مقدور عليه لانه مغاير لفطرة الانسان. فينبغي علينا ان نتعلم أدب الحوار.. وعلينا أيضا كما عرفنا كيف نختلف ان نعرف كيف نتفق.. وقد علمنا كتاب الله تعالي السلوك الرشيد الهادي عند الاختلاف والتنازع فقال عز وجل "فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا" وقال سبحانه "وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلي الله". أوضح الدكتور عبدالشافي ان ما يساعد علي مواجهة حدة الخلاف.. تحديد الأصول والفروع وتقديم الأولويات ومعرفة القواسم المشتركة التي تجمع بين المتحاورين. أشار أستاذ العقيدة والعميد السابق للدراسات الاسلامية والعربية إلي انه من المعلوم انه لا ضير من الاختلاف.. ولابد من تقبله بصدر رحب ونفس راضية متسامحة علي حد قول الامام الشافعي: "رأينا صواب يحتمل الخطأ.. ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب" وما أروع قول الامام مالك رضي الله عنه "انما أنا بشر أخطئ وأصيب. فانظروا في رأيي. ان وافق الكتاب والسنة فخذوا به.. وان لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه". وأكد الدكتور عبدالشافي أن المسلم طالب حق لا يعرف العصبية انه باحث عن الحقيقة ينشد الصواب.. ويعترف بالخطأ اذا وجد الصواب عند غيره ذلك ان انكار الحق وعدم قبوله أو التمرد عليه أمر خطير يهدد كيان الأمة.. بل ويهدد مصير الانسان في الدنيا والآخرة. أوضح ان الموضوعية والأمانة العلمية تفرضان علي الانسان العاقل ان يكون منصفا.. لا يزعم احتكار الصواب ابدا.. ولا يتجاهل أخاه من خلال التعصب الأعمي.. لأن الانسان بطبيعته بشر يخط ء ويصيب.. وا لله سبحانه لم يعصم الا انبياءه ورسله فمن الطبيعي ان يخطيء الانسان في حواراته ومناقشاته مع غيره ولأن كان التسليم في بعض الأحيان صعبا علي نفس الانسان فان المروءة والشجاعة الأدبية ومجاهدة النفس والانتصار علي غرورها.. كل ذلك له حلاوة ايمانية لا تقل ابدا عن حلاوة الانتصار والغلبة والاعتراف بالزلل والخطأ.. بعد وضوح الحق والصواب.. يكسب صاحبه تقدير الناس واحترامهم بخلاف الاصرار علي الخطأ والتشبث بالرأي الذي يورث الكبر والتعالي علي الناس وهو بالتالي يورث الحقد والكراهية. الحوار المثمر وعن ضوابط الحوار المثمر يقول الدكتور الأحمدي أبوالنور لكي يكون الحوار مثمرا وايجابيا لا بد له من ضوابط وأطر تغلفه حتي لا نضيع الوقت ونبدده بلا ثمرة ولا فائدة. أشار إلي ان أبرز هذه الضوابط.. اخلاص النية وهو قارب النجاة من أوحال النفاق وحب الظهور والغلبة والاستعلاء علي الآخرين والاخلاص هو روح الأعمال وسر قبولها قال تعالي: "انما يتقبل الله من المتقين" ويقول الامام بن القيم وقد جرت عادة الله تعالي التي لا تبدل وسنته التي لا تحول ان يلبس المجلس من المهابة والنور والمحبة في قلوب الحق. واقبال قلوبهم اليه ما هو بحسب اخلاصه ونيته ومعاملته لربه. ويلبس المرائي ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغض ما هو اللائق به فالمخلص له المهابة والمحبة. وللآخر المقت والبغضاء. وقال د. الاحمدي أبوالنور ان الصراعات العنيفة والمعارك الكلامية التي تدور بين المتحاورين تفتقد في كثير من الأحيان إلي روح الاخلاص ذلك ان الاخلاص حصن حصين من نزغات الشيطان الذي أخذ علي نفسه عهدا الا يتعرض لعباد الله المخلصين قال تعالي: "إلا عبادك منهم المخلصين". الحلم وسعة الصدر أشار الي ان ثاني هذه الضوابط الحلم وسعة الصدر فقديما قالوا تغيير الفكر أصعب من النحت في الصخر.. حقا ان استرضاء الناس واقناعهم بمسألة شاقة عسيرة تحتاج إلي التلطف في القول واتساع الصدر وامتداد الحلم.. عن ابن مسعود رضي الله عنه عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: لذي لا تصرعه الرجال. قال: ليس ذلك ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب".. فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: تحلم علي من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك. وتعطي من حرمك. وتصل من قطعك". خشونة أسلوب الحوار ويبين ان خشونة أسلوب الحوار المصحوبة بالغضب لا تؤدي إلا إلي مزيد من الخصومة والعناد. بينما حلو الكلام ورقيه يؤديان الي الحب والتآخي والود ولو بعدت الشقة.. وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم اذ يقول "ان الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله". التعصب والاستبداد وعن الحكم الشرعي في التعصب للرأي يقول الدكتور الأحمدي أبوالنور التعصب للرأي مذموم في الاسلام وخير دليل علي ذلك هو سلوك سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضي الله عنهم.. وأيضا سلوك التابعين وعلماء المسلمين من بعدهم.. ولقد أرشدنا القرآن الكريم الي التخلص عند التعصب اذ علم الرسول صلي الله عليه وسلم ان يقول للمشركين في محاورته معهم "وإنا أو إياكم لعلي هدي أو في ضلال مبين".. وهذا أسلوب يغلفه التلطف والحكمة. يحمل المخاطب علي التدبر والتفكر الصحيح حتي يعود للصواب والرشاد.. وهو بلاشك لون من ألوان الدعوة الي الله بالأسلوب الراقي المهذب الذي يزيل البغض من النفوس ويدعو إلي الاستسلام للحق والدخول فيه. أشار د. حمدي طه الاستاذ بجامعة الأزهر إلي ان آفة التعصب أو الاستبداد بالرأي قد ابتلي بها الخوارج قديما. وباسمها استباحوا دماء المسلمين.. وفتنوا الناس في دينهم علي حد قول ابن الجوزي الذي قال: "ان هؤلاء المساكين وقعوا أسري ألفاظ لم يحسنوا فهمها. ولن يستمعوا لمن يجليها لهم. ويفهمهم اياها لأن الصواب كما يرون هو رأيهم. وما عداه خطأ. وقد ناقشهم عبدالله بن عباس حبر الأمة. وناقشهم كذلك عمر بن عبدالعزيز. ولكن استولت عليهم فكرة التفكير والغلو والغلظة والجنوة وسجل التاريخ صفحات سوداء لهذه الفرقة العنيفة القاسية التي أفسدت الأرض فقد طعنوا في مخالفيهم وضللوهم وكفروهم وأساءوا الظن بهم كل هذا وغيره مع كثرة تلاوتهم للقرآن الكريم وسهرهم في الليل وعبادتهم المضنية الا بغضا للتعصب الممقوت الذي يؤدي الي اللغو الذي يترجم في الواقع إلي الهلاك والافساد في الأرض. التواضع ولين الجانب أشار د. حمدي طه الي انه من آداب الاسلام التواضع ولين الجانب. ولأن الحوار مهنة العلماء المتخصصين. فلابد من الانصاف بهذا الخلق الكريم الذي يفتح الطريق ويمهد لابداء الرأي وعرض الفكرة في جو من السماحة والرضا واحترام شخصية الآخر.. كما ان غض الطرف عن الزلات وعدم تصعيد الاخطاء من شأنه ان يشيع جو الود في الحب بين المتحاورين ولاشك ان هذا الجسر يؤدي في النهائية إلي نشر روح الاخوة والألفة وتصافح القلوب يقول الله تعالي "ولا تصعر خدك للناس ولا تمشي في الأرض مرحا ان الله لا يحب كل مختال فخور وأقصد في مشيك واغضض من صوتك ان انكر الأصوات لصوت الحمير" ويقول سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه "ما نقص مال من صدقة. وما زاد الله عبدا بعفو الا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". وقال د. حمدي طه انه لاشك ان تجاهل الناس والتكبر عليهم لا يزيدهم الا بعدا ونفورا. والتكبر كما نعلم رذيلة ممقوتة تغرس الفرقة والعدواة بين الأفراد. وتقضي علي التسامح والمحبة بينهم.. وحينما يظهر الطرف المتحاور للطرف الآخر انه يتكبر عليه ويحتقره لأنه دون مستواه لايستمر في الحوار ولو استمر فإنه لا يدلي برأيه بصدر رحب وهذا مما يؤدي في النهاية الي التوقف والفشل وعدم الاستمرارية بل تجميد الحوار أحيانا.