1⁄4 مصر بلد الأسماء. ولم تكن يوماً بلد الأفعال.. مصر بلد النظرية. ولم تكن يوماً بلد التطبيق.. بلد الذات لا بلد الموضوع.. بلد الفرد لا بلد الجماعة.. القانون في مصر نصوص ميتة لا يحترمها أحد ولا يطبقها.. والدساتير عندنا حبر علي ورق بلا قيمة ولا مضمون.. ويقال إن المصري يخترع القانون والدستور ليخالفهما لا ليطبقهما.. نحن نصنع الأصنام بأيدينا ونعبدها. فإذا جعنا نأكلها.. لأن أصنامنا وقوانيننا ودساتيرنا من عجوة.. فنحن نبايع أربابنا في الصباح ونأكلهم حين تأتي العشية.. علي رأي الشاعر الراحل نزار قباني: نحن مشهورون بحسن القول وسوء الفعل.. بمثالية النظرية وسفالة التطبيق. إن هي إلا أسماء سميناها نحن وآباؤنا.. ما أنزل الله بها من سلطان.. وأنت حين تسمع المصري أو تقرأ له تشعر بأنك في المدينة الفاضلة وفي جمهورية أفلاطون. وعندما ينتقل من القول إلي الفعل تشعر وتري جمهورية "الهبالة والشيطنة". الكل في مصر يتحدث ولا أحد يسمع.. مثل أجدادنا بني إسرائيل الذين علمونا أن نجادل بالباطل لندحض به الحق ونقول بألسنتنا ما ليس في قلوبنا.. كما تقول صديقتي صفاء السيد المقيمة في فرنسا: نحن نقاطع بعضنا. ونصادر آراء بعضنا. والكل يكذب ويتحري الكذب حتي يصدق نفسه.. والسؤال الذي أسأله لنفسي وللناس من حولي في كل مرة: "هو إيه الموضوع؟!".. "احنا كنا بنقول إيه؟!".. ثقافة الزحام والضوضاء و"الغلوشة" هي السائدة في مصر. حتي أننا ننسي ما خرجنا من أجله وما بدأنا الحديث فيه.. "احنا بنقضيها كلام".. سواء كان الكلام مكتوباً أو منطوقاً.. وكل حزب بما لديهم فرحون.. وكل فريق يظن أنه علي الحق.. بينما الجميع علي باطل.. نحن مشغولون بالأسماء.. والإنجازات عندنا إنجازات أسماء. لا إنجازات أفعال.. التطوير اسم بلا فعل.. والتنمية والصحوة والنهضة والثورة والتحديث والدين والعلمانية والليبرالية والدولة المدنية والديمقراطية والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.. كلها أسماء بلا أفعال. وشعارات بلا مضامين.. ولافتات متفائلة ومشرقة علي قبور.. ولا أحد يحاسبنا ولا أحد يلومنا. لأننا جميعاً "في الهوي سوي".. "لا تعايرني ولا أعايرك. الهم طايلني وطايلك".. لا أحد يعجب من شخص بني مقبرة وعلق عليها لافتة "مقبرة الحياة.. أو تربة السعادة.. أو جبانة الأمل".. لا أحد يعجب عندما يري لافتة علي محل حانوتي تقول: "حانوتي الفجر الجديد.. أو حانوتي الشهداء.. أو حانوتي الثورة".. وهذا ليس أمراً مدهشاً. فنحن نراه يومياً ونمر عليه ونحن معرضون.. هناك "دراي كلين عباد الرحمن.. ومغسلة التوحيد.. وقهوة الصراط المستقيم.. وكباريه الفردوس "بارادي".. أو "باراديس"".. مصر فيها مضحكات بلا عدد. لكنه ضحك كالبكاء. وهناك مبدأ لم يثبت كذبه أبداً وهو: إذا علت الشعارات خَفُت صوت المضامين.. والمصريون من أكثر الناس ارتكاباً للمقت الأكبر وهو أنهم يقولون ما لا يفعلون.. والعاقل من إذا قال المصريون لم يصدقهم.. وإذا هتفوا لا يعبأ بهم. وإذا أجمعوا علي أمر خالفه.. لأنه إجماع كلام وأقوال وشعارات و"اللي في القلب في القلب".. واللغة العربية لغة أسماء لا لغة أفعال.. والجملة فيها اسمية لا فعلية.. أو الأساس فيها الجملة الاسمية.. وهي لغة لا تستعصي علي أحد.. يستخدمها البر والفاجر بنفس الجودة والإتقان.. ويستخدمها الصادق والكاذب بنفس القدرة علي الإقناع.. بل إن الصادق أضعف حجة من الكاذب.. والفاجر أكثر بلاغة من البر أو البار. وأنت لا تستطيع أن تصل إلي قلب المصري بفعلك الصادق. لكنك تستطيع أن تصل إليه بقولك الكاذب لأننا نتبادل الكذب والنصب والخداع.. وقد عجبت لرجل من هؤلاء الذين نسميهم القوي السياسية يقول إنه قرر اعتزال العمل السياسي.. ولست أدري ما هو هذا العمل السياسي الذي عمله وقرر اعتزاله.. وكان الأجدي أن يقول إنه قرر اعتزال الكلام السياسي والشعارات السياسية و"الهجص" السياسي.. واعتزال السياسة في مصر رحمة بهذا الشعب الذي أدمن أن يعيش ويموت مخدوعاً.. اعتزال السياسة عندنا توبة وتطهر.. لأن السياسة في مصر "نجاسة".. السياسة في مصر تنقض الوضوء. وتفسد الصيام.. ومن كان يؤمن بالله ورسوله في مصر لا يلبس إيمانه بالسياسة.. بل إن السياسة في مصر ضد الدين.. فالسياسة عندنا كذب. والدين صدق.. السياسة عندنا نصب واحتيال وخداع.. والدين استقامة وأمانة ووفاء.. لا يعمل بالسياسة في مصر إلا فاجر.. والساسة عندنا. وإن ادعي فريق منهم التدين هم حزب الشيطان.. لا يمكن في مصر أن تكون سياسياً وصادقاً.. أن تكون سياسياً ومستقيماً.. أن تكون سياسياً وطاهراً ونقياً.. الشيطان هو الزعيم الذي يقود كل جنوده من الساسة في مصر.. لا أستثني منهم أحداً.. الشيطان في مصر هو الذي يهتف وهو الذي يخطب ويصرح ويعظ ويدعو.. والاختلاف السياسي في مصر اختلاف حرامية.. والمسروق هو الوطن. * * * * 1⁄4 ليس صحيحاً ولن يكون أن المصريين قاموا بثورة "هي حاجة كده غريبة.. ناموسة دخلت غرفتنا سميناها ثورة".. ليس صحيحاً ولن يكون أن مصر شهدت صحوة أو نهضة أو تنمية أو "بلاء أزرق".. "الثانوية العامة سنة ولا اتنين؟!".. "سنة سادسة شهادة ولا نقل؟!".. "أفتح الشباك ولا أسد الشباك؟!".. كل عهد في مصر ليس له عمل سوي الشطب والمحو والإزالة والهدم.. واختراع أسماء جديدة.. ونزع لافتة ووضع أخري علي نفس المقبرة.. فبدلاً من مقبرة الصحوة.. نضع لافتة مقبرة النهضة.. وبدلاً من الحزب الوطني الديمقراطي. نضع لافتة حزب الحرية والعدالة.. وبدلاً من الأستاذ أحمد نضع الحاج أحمد.. وبدلاً من الرفيق فلان. نكتب الشيخ فلان.. تتغير في مصر الأسماء والأفعال واحدة.. والمقبرة واحدة.. والأداء "هو بغباوته. وشكله العكر".. الإنجاز الأعظم لما سميناها الثورة هو أنها نزعت لافتة "محطة مترو مبارك".. ووضعت لافتة "محطة الشهداء".. والذي كان محظوراً صار مباحاً. والذي كان مباحاً صار محظوراً.. كل العهود في مصر هي "الليمونة التي تدوخنا".. ونحن مع كل عهد "ندوخ السبع دوخات".. ولن يأتي عهد أو يوم نرسو فيه علي بر.. إني لأفتح عيني حين أفتحها.. علي كثير ولكن لا أري أحداً.. فالعدد في الليمون. والشعارات والهتاف والمليونيات.. لكن لا شيء يحدث.. وهذا الشعب أدمن أن يكون مخدوعاً ومنصوباً عليه. ومفعولاً فيه. ومفعولاً به.. لا يريد يوماً أن يكون فاعلاً.. هذا الشعب يشبه النعت أو الصفة في قواعد اللغة العربية.. فهو تابع للموصوف.. يرتفع برفعه. وينتصب بنصبه.. ويُجر بجره.. هو قماشة طيعة يفصلها كل عهد علي مقاسه.. "اللي يعملها بنطلون.. واللي يعملها جلباب.. واللي يقصرها. واللي يطولها".. ولم يحدث علي مر العهود أن احترم حاكم هذا الشعب أو خافه أو حسب له حساباً.. وكل حاكم يتحدث باسم الشعب والشعب يهتف ويصفق.. يقول فرعون: أنا ربكم الأعلي. فنسجد له "فيسوق فيها". ويقول: أنا حصلت علي الألوهية بشرعية شعبية.. فالعيب فينا. لأننا نسجد لكل فرعون يستخفنا فنطيعه.. ويقول لنا: "ما أريكم إلا ما أري. وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". العقل الجمعي المصري إمعة. وتابع.. أو هو عقل القطيع "قطيعة تقطع القطيع".. والمصريون لا يمتلكون. بل لم يمتلكوا يوماً فضيلة التأمل والتدبر وإعادة النظر.. لكنهم يمتلكون رذيلة الإصرار والعناد والمكابرة والمكايدة والمناكفة.. ونحن نضيع أعمارنا في الحوار حول أسماء.. وتاريخنا كله أسماء. وليس فيه أفعال.. محمد علي هو الذي فعل.. إسماعيل هو الذي أنجز.. سعد زغلول هو الذي فجر ثورة ..1919 وعبدالناصر والسادات ومبارك ومرسي.. ومن أفضل؟!.. ومن الذي نجح. ومن الذي فشل؟!.. لم نتحدث عن الشعب أبداً.. لأن الشعب تابع للزعيم.. لأن الشعب يربط نفسه "مطرح ما يقول صاحبه".. ونحن نتقاتل ويسفك بعضنا دماء بعض من أجل من نسميهم زعماء.. من أجل عبادة الفراعين الذين نصنعهم بسجودنا لهم. مشكلتي لم تكن يوماً ولن تكون مع حاكم أو مسئول. لكنها دائماً مع هذا الشعب لأنني مؤمن بأن الشعب هو الذي يفسد الحاكم. وليس الحاكم هو الذي يفسد الشعب.. وكل حكام مصر بدأوا مثاليين وملائكة ورومانسيين.. وأبرياء وأنقياء.. وبعد قليل "يتعفرتون" ويتشيطنون. وتتورم ذواتهم لأننا نفسدهم بالتزلف والنفاق والتذلل.. وقولنا في كل عهد ولكل حاكم: "حكمة الرئيس. وبصيرة الرئيس.. ومطلوب تدخل الرئيس.. ونحن نستغيث بالرئيس.. المنحة يا ريس"!!.. "بالذمة حد يلاقي دلع وما يدلعش؟!".. وكاتب هذه السطور الذي يدعي المثالية ويدعو إلي الفضيلة لو صار حاكماً لمصر فسوف "يتشيطن" في أقل من شهر.. لأن هذا الشعب سلس القياد.. "ونروح بعيد ليه؟!".. انظر إلي أي مصري قبل أن يتولي أي مسئولية ولو حتي خفير درك أو رئيس حي.. ستجده "حبوب ولذيذ ويتحط علي الجرح يبرد".. وارصد تصرفاته بعد أن يتولي المسئولية "ياساتر يا رب.. يتحول إلي إبليس.. وإلي شخص منفوخ ومتورم الذات".. "فيه حاجة غلط في الكرسي.. أي كرسي في مصر".. لكن الخطأ ليس في الكرسي. ولا الجالس عليه. وإنما هو فساد الرعية والمرءوسين.. والرخص الذي يسيطر علي سلوكياتنا.. سلوكيات رخيصة. * * * * * "ريمة في مصر لديها القدرة علي الرجوع إلي عادتها القديمة".. لا تغيرها ثورة ولا صحوة ولا نهضة ولا اشتراكية ولا رأسمالية ولا خصخصة.. ريمة ترتكب نفس الجريمة.. وأخلاق ريمة وثقافة ريمة هي الحاكمة بأمرها في مصر.. ريمة تجعل الليلة كالبارحة.. وتجعل الأستاذ أحمد مثل الحاج أحمد والشيخ أحمد.. ريمة تجعل 23 يوليو مثل 15 مايو مثل 25 يناير.. ريمة المصرية ترتدي مائة قناع ولكنها لا تخفي علي.. تحلق أو تلتحي "برضه عارفها".. تقسم بأغلظ الأيمان علي انها تغيرت فلا أصدقها.. ريمة المصرية الدم واللحم توقف نموها فلا نري جديداً في أي عهد.. ولست أدري كيف لايمل هذا الشعب ولا يزهق من تكرار نفس السيناريوهات علي مدي آلاف السنين.. هناك من يقول إن صلاحية الشعب المصري قد انتهت بفعل القدم وسوء التخزين وانقطاع التيار الكهربائي والتسمم الغذائي.. هناك من يري أن الشعوب أيضاً لها عمر افتراضي وتاريخ صلاحية وأن الشعوب القديمة كلها شاخت وانتهي عمرها الافتراضي وصلاحيتها للاستهلاك العالمي.. ويستدلون علي ذلك بأن الدول القديمة هرمت وفقدت القدرة علي الفهم والتركيز.. وفقدت الذاكرة أيضاً لذلك تكرر أخطاءها.. وعندها ارتداد طفولي ولا تعرف التمرة من الجمرة بمنطق المثل العامي الذي يقول "أولنا صغار وآخرنا صغار".. ويقولون إن هذه الشيخوخة تنطبق علي الشعب المصري والشعب العراقي والشعب في الشام وفي اليمن..وفي أوروبا نجد الشعبين اليوناني والايطالي في ذيل الشعوب الأوروبية لأنهما شعبان قديمان أحدهما الاغريق والآخر الرومان.. ومصر لأنها الأقدم فهي الأكثر شيخوخة وهي التي تعاني الآن الخرف والهذيان والزهايمر.. لذلك تكرر خطاياها وتعيد انتاج مساوئها وتكرر في كل عهودها نفس جريمة ريمة ورجوعها إلي عادتها القديمة!!! نظرة û الجملة في مصر دائماً ناقصة.. ولا يحسن السكوت عليها.. أي أنها جملة غير مفيدة رغم أنها طويلة جداً.. "مافيش حاجة راكبة علي بعضها في البلد".. فالمساكن لا تجد سكاناً.. والسكان لا يجدون مساكن.. ولدينا معلمون ومتعلمون وليس لدينا تعليم.. عندنا محاكم وقوانين وليس عندنا عدل.. عندنا حقوق بلا إنسان وإنسان بلا حقوق.. مصر أدمنت الرقص علي السلم.. يحتار من يحاول أن يصنفها.. فهي ليست دولة فقيرة ولا دولة غنية.. ليست إفريقية تماماً ولا آسيوية تماماً.. اللون الرمادي.. أو اللالون هو المسيطر في مصر.. "زي ما تقول كده بين البينين".. لا أحد يستطيع أن يحسم أو يقطع.. لذلك نشكل اللجان واللجان المنبثقة "والمنبصقة".. وعلي رأي صباح عندما قالت عن فؤاد المهندس: "يسيب الأكل كله.. ويمسك طبق الفول.. ولقمة تجر لقمة يشبع ويقوم علطول.. والأكل بحاله ينشال والحال تاني يوم هو الحال".. "الشعب ده حيجنني".. وأنا علي ثقة بأن النوايا صادقة وأن هناك برنامجاً عبقرياً لتنمية سيناء.. لكن الجملة ناقصة.. زمان كانت سيناء موجودة ولكن لا توجد التنمية... الآن التنمية موجودة "بس فين سيناء؟"..!!