تستطيع وأنا معك أن نلملم المشهد المصري كله ونضعه جميعا تحت عنوان واحد أو عدة عناوين بمعني واحد نختار منها ما شئنا.. والعنوان الجامع لهذا العك كله هو التطرف أو الغلو أو التعصب أو الكراهية.. كل هذا له معني واحد.. فالكاره متعصب ومتطرف ومغال ومبالغ.. والمصريون جميعا.. لا أستثني أحدا أصابهم داء التطرف والتعصب.. فلا جدوي من حوار أو جوار.. المصريون صاروا خطوطا متوازية لا تلتقي أبدا ولا تتقاطع في نقطة واحدة.. فقد اتفقوا علي ألا يتفقوا.. وتعاهدوا علي ألا يتعاهدوا.. واجتمعوا وأجمعوا علي ألا يجتمعوا.. انها حكايتنا القديمة منذ عهد موسي عليه السلام.. حوار البقرة ومفاوضات البقرة وجدال البقرة.. ثم العكوف علي العجل الجسد الذي له خوار.. ولست أدري سر ارتباطنا بالبقرة والعجل منذ ذلك العهد.. "نخلص من بقرة يطلع لنا عجل".. ويموت المئات والألوف بسبب الاختلاف علي لون البقرة وصفاتها وحجمها ووزنها.. وخوار العجل وهل هو حقيقي أم مزيف.. انها لا تعمي الابصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.. انها رذيلة صناعة الآلهة حتي إذا كان الإله بشرا أو بقرا أو عجلا.. القلوب العمياء منذ عهد موسي عليه السلام دأبت علي جعلنا نستبدل الذي هو أدني بالذي هو خير.. أحلام في السماء وواقع وحقائق في الدرك الأسفل.. نصوص وشعارات وأقوال وهتافات براقة ورومانسية وتطبيق وتنفيذ قبيح وقذر وفاسد.. حتي ثورتنا تتحول إلي "ثور".. إنها رذيلة الارتباط بالبقر والعجول والثيران منذ موسي عليه السلام.. وشعب الله المختار في كل مرة يتحول إلي الشعب المحتار بين البشر والبقر والعجول والثيران.. نرجسية مقيتة "ومش عارف بأمارة إيه".. نحن أبوالدنيا وأمها.. نحن الأقدم.. نحن الأعظم.. نحن الأكبر.. نحن الريادة والقيادة والسيادة.. نحن الأقوي وكل زعماء العالم يستفيدون من حكمة قادتنا "بحكمتك تحتال علينا أو تختال علينا.. ما تفرقش".. فالمحتال مختال.. نحن أبناء الله وأحباؤه.. تذكرت رجلا كان من عائلة عريقة وقديمة وغنية "وباشوات".. وذهب كل ذلك مع الريح وصار الرجل معدما وفقيرا "دقة" ويتسول لقمته وثوبه.. ويجلس كل يوم علي قارعة الطريق مع نفر من الناس "وهات يا كذب".. شايف الراجل ده اللي راكب عربية أحدث موديل؟.. أهو ده أبوه كان خدام عند جدي الباشا.. شايف ابن الكلب ده اللي ساكن في القصر الكبير اللي هناك؟ أمه كانت "حلابة".. أي تحلب الجاموس والبقر عند جدي أبو أمي.. برضه الجاموس والبقر.. "كنا أسياد البلد.. كل الناس دول كانوا عبيد عندنا.. أنا جدي الكبير كان عضو في أول مجلس لشوري النواب أيام الخديو اسماعيل". كلنا هذا الرجل.. كلنا نتسول بطريقة "حسنة وأنا سيدك".. وعبثا تحاول اقناع الرجل بأن يفيق "ويعيش عيشة أهله الحالية".. "الراجل عقد علي كده".. ولا جدوي من الحوار معه ولن يقتنع بأن ابن الكلب الذي يتحدث عنه أفضل من الكلب الذي يتحدث.. والناس في العالم كله مثل النفر الجالسين مع صاحبنا يستحثونه ليتحدث ويتغامزون عليه.. وإذا توقف عن الحديث يطلبون منه المزيد "خد سيجارة واحكيلنا حكاية خالك الباشا مع الجنايني.. اشرب فنجان القهوة ده وقل لنا ماذا فعل جدك الحكمدار مع الفلاحين" ويواصل الأبله حكاياته وأصحابنا يتسلون به.. ويكيلون له المديح ليستمر في غيه.. انت ابن ناس أكابر.. أجدادك كانوا أعظم الناس وأغناهم.. نحن جميعا "لحم كتافنا من خيركم".. يقولون ذلك ويضحكون علي القرد "أبوصديري". المدرس الكحيان العجوز جالس أمام داره يتفاخر بالوزير الفلاني الذي كان تلميذه.. "والوزير الأسبق جالس علي المقهي" يروي انه "كان موقف الوزارة علي رجل.. وكل هؤلاء الذين يحكمون ويتحكمون في الوزارة الآن كانوا يرتعشون إذا نظر إليهم نظرة غضب". كلنا هذا المدرس.. كلنا هذا الوزير.. انفصلنا تماما عن الواقع سواء كنا حكاما أو محكومين.. حكومة أو معارضة أو أهالي.. تفرغنا لتقليب ألبوم صورنا القديمة.. مجدنا كله صار صورا علي الجدران أو في الألبوم أو غرفة كرار فيها متعلقات قديمة ومتهالكة.. لم يعد أمامنا سوي الفخر بالروبابيكيا.. مازلنا في ضلالنا القديم.. لا نريد أن نفيق.. ولا حل سوي أن نفيق وندرك ان الريادة والقيادة والعظمة والعراقة كلها ولت.. وان الريادة ليست أبدا تاريخا وجغرافيا وموقعا متميزا ومساحة وعددا في الليمون.. الريادة الآن لها معطيات أخري ومعايير وشروط مختلفة. **** المجتمع المصري صار يعاني تطرفا وتعصبا وكراهية تأكل الأخضر واليابس.. المؤيد الموالي مستفز في تأييده.. والمعارض مقرف ومستفز في معارضته.. كل يري نفسه الأبيض والآخر أسود.. كل منا يري لونا مختلفا للبقرة ولديه قراءة مختلفة لخوار العجل.. سمعتنا صارت "زي الزفت".. نحن الآن لا نطاق في أي دولة كأننا فيروس أو مرض معد.. بلطجة وغباء وإرهاب وتطرف.. نحن نصدر كراهية للعالم كله.. ونمارس كل شيء بغلو وتطرف.. حتي الحب فيه مغالاة وتعصب.. أي والله.. حتي حبنا إرهابي مخيف وعنيف مثل الكراهية تماما.. ونقول افتخاراً ان المصريين كسروا حاجز الخوف بعد ما يسمي ثورة يناير.. والحق انها رذيلة تستحق الخجل لا الافتخار والزهو.. فالحياة بلا خوف لا تطاق.. ولا إيمان لمن لا يخاف.. وعبادة الله تكون خوفا أولاً وطمعاً ثانياً.. ولفظ "ويل" تكرر في القرآن أضعاف لفظ "طوبي".. ولا جدوي من مجتمع لا يخاف الله.. ولا يخاف القانون.. ولا يخاف الخطر ولا يخاف فيه الناس علي الوطن.. ولا تستقيم حياة الناس بلا خوف.. ولا حياء لمن لا يخاف.. والذي يكسر حاجز الخوف ينزع بالضرورة برقع الحياء.. وليس صحيحا أبداً قولنا: لا حياء في الدين.. بل الدين هو الحياء.. وليس صحيحاً قولنا: لا حياء في العلم.. فلا علم لمن لا حياء عنده.. وقد وصلنا إلي نتائج كارثية لكسر حاجز الخوف.. تآلفنا مع الوقاحة وقلة الحياء وتمزيق القيم والاعتداء علي الحرمات والبلطجة والسفالات ولم يعد للبلد كبير.. صارت مصر "امرأة دايرة علي حل شعرها".. "لم تعد بلدنا عالترعة بتغسل شعرها.. كما غني لها عبدالحليم".. "ولكن.. بلدنا في الشارع علي حل شعرها".. قامت الهوجة الكذابة التي سميناها ثورة من أجل جلب المنافع فإذا بها لم تجلب المنافع ولم تدرأ المفاسد.. بل دمرت منافع كانت قبلها وزادت مفاسد كانت قبلها. المصريون تطرفوا بلا حدود وأحرقوا كل مراكب العودة إلي شاطيء الاعتدال والسماحة.. دول الخليج العربي كلها سلفية محكومة بالمنهج السلفي.. "اشمعني سلفيتنا احنا زاعقة ناعقة صاعقة مقرفة؟".. دول افريقيا كلها الآن علمانية ديمقراطية ليبرالية "اشمعني ديمقراطيتنا وليبراليتنا منكوشة ومهووسة ومقرفة"؟ تركيا اخوان والمغرب اخوان والأردن اخوان "اشمعني اخواننا نحن مكشرين ومدخنين الجو ومولعين الدنيا".. لا تقل "اشمعني".. فتش عن التطرف الذي سمم كل المناهج والنظريات الجميلة وجعلها عندنا لا تطاق "لا علمانية وليبرالية نافعة ولا سلفية وأخونة شافعة".. نحن متطرفون حتي الموت.. ولن نعتدل إلا إذا متنا "نروح نموت أحسن بقي".. المصريون لا يعرفون ثقافة الصفح والغفران والسماحة والسماح.. كل ذلك عندهم ضعف وفساد لأنهم متعصبون إرهابيون. هل تعرف لماذا الهياج ضد القضاء والدعوة إلي تطهيره؟ لأن القضاء حكم بالبراءة.. المصريون يعتبرون البراءة ظلما وفسادا وكوسة ويرون ان الإدانة عدل وإنصاف وطهارة.. في كل حكم براءة حتي في القضايا العادية أسمع من الجميع أقوالنا المأثورة "أيوه يا عم.. القضية اتطبخت واتطرمخت.. القضاء الفاسد.. المرتشي.. أصل القاضي خد رشوة كبيرة.. أصل الشرطة الفاسدة طمست الأدلة".. وفي كل حكم إدانة حتي في القضايا غير الجماهيرية أسمع عبارات أخري مأثورة "والله قاضي راجل.. والله جدع.. هو ده العدل.. خلينا ننضف بقي".. العدالة عند المصريين المتطرفين هي الإدانة.. وأعظم العدالة الإعدام والمصريون لا يحبون البراءة "كده لله في الله".. لذلك يطالبون بما يسمي الشرعية الثورية ومحاكم الثورة.. "وأنا لا أفهم يعني إيه شرعية ثورية.. هي الإعدام بالتأكيد.. ما هو يا شرعية يا ثورية.. لكن الاثنين لا". وكثيرا ما أسمع قولنا "احنا شعب يخاف ما يختشيش" والخوف غير الخشية والله تعالي يقول "ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب".. الخشية خوف مقترن بالحياء.. يعني يخاف الله ويستحي منه سبحانه وتعالي.. يعني الحيي يخاف حياء.. أما قليل الحياء فيخاف جبناً ورعباً.. فالخشية تنبع من داخلك.. والخوف مصدره خطر من الخارج يردعك.. ونحن نخاف من عقاب أو رادع خارجي.. لكننا لا نخشي لأننا بلا حياء.. رجلان امتنعا عن ارتكاب جريمة الزني.. لكن أحدهما استحيا من الجريمة والآخر خاف انكشاف أمره وعقابه.. وفي كل خير.. لكن الأول خير من الثاني.. الأول لن يرتكب جريمة الزني أبدا.. والثاني قد يرتكبها إذا أيقن انه لن ينكشف ولن يتعرض للعقاب.. الأول عنده رادع داخلي والثاني لابد له من رادع خارجي.. والأول لا وجود له في مصر الآن والثاني ضمن الافلات من العقاب فاستهان بكل شيء وارتكب الجرائم.. كلنا هذا الرجل الآن.. والمصريون خير أجناد الأرض.. نحن نقول ذلك علي اطلاقه وننسي انه قول وحديث مقيد بشرط وهو أن يكونوا في رباط إلي يوم القيامة.. والرباط هو الحذر والتأهب والنظر في العواقب.. وقد فقدنا ذلك كله.. فككنا الرباط وانطلقت الثيران والبقر والعجول إياها "تبرطع" وتهلك الزرع والضرع والحرث والنسل.. ولم يعد في البلد ضابط ولا رابط "ولا عابط.. جاهم خابط".. مصر فكت الرباط "وفلت عيارها".. "فحلت شعرها.. وأفطرت شهرها.. ولوثت نهرها"!! نظرة لا أعرف أمة رفعت حكامها إلي مراتب الألوهية مثل الأمة العربية عموما والمصرية خصوصا.. كانت الألقاب السابقة والتالية لاسم الحاكم ومازالت تشبه إلي حد كبير أسماء الله الحسني.. والعياذ بالله.. حتي ان أبا نواس مدح الخليفة العباسي محمداً الأمين ابن هارون الرشيد قائلاً: وإذا المطي بنا بلغن محمدا فظهورهن علي الرجال حرام ولم يكن أبو تمام أقل من أبي نواس في مدح المعتصم.. ولم يكن المتنبي أقل منهما مبالغة في مدح سيف الدولة الحمداني حين قال.û تجاوزت مقدار الشجاعة والنهي.. إلي قول قوم انت بالغيب عالم. وهذه قائمة بالأسماء والصفات التي كان الأئمة يخطبون بها علي المنابر لأبي علي أمير الجيوش بدر الجمالي الذي اغتصب الحكم لنفسه من الدولة الفاطمية بعد قتل ولي عهد الآمر بأحكام الله.. حيث كان الأئمة يقولون عنه: السيد الأجل الأفضل.. سيد ممالك أرباب الدول.. المحامي عن حوزة الدين.. ناثر جناح العدل علي المسلمين الأقربين والأبعدين.. ناصر إمام الحق "المهدي المنتظر" في غيبته وحضوره.. والقائم في نصرته بماضي سيفه.. وصائب رأيه وتدبيره.. أمين الله علي عباده.. هادي القضاة إلي اتباع شرع الحق واعتماده.. ومرشد دعاة المؤمنين بواضح بيانه وإرشاده.. مولي النعم.. رافع الجور عن الأمم.. ومالك فضيلتي السيف والقلم.. أبوعلي أحمد ابن السيد الأجل الأفضل أبي القاسم شاهنشاه أمير الجيوش.. "قطعتوا نفسي. الله يقطع نفسكم"!!!