لا انتمي إلي أي فصيل سياسي. ديني أو مدني. في الحكم أو في المعارضة. لا قبل ثورة يناير ولا بعدها.. ولكن: لو سألني أحد: من الذي يقود الأحداث في مصر الآن. ويوجه دفتها.. هل جماعة الاخوان المسلمين الحاكمة وحلفاؤها.. أم المعارضة لكانت إجابتي علي الفور: بل المعارضة. ليس مدحا في هذا الفريق أو قدحا في ذاك.. لكنها الحقيقة. المشهد السياسي الراهن. يؤكد ان المعارضة. ممثلة في تحالف القوي المدنية داخل ما يسمي ب "جبهة الانقاذ الوطني" قد نجحت علي حداثة تكوينها- في أن تفرض أجندتها علي جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها في مواقف كثيرة وأن تستدرجها إلي ملعبها وإلي طريقة لعبها. وأن توقعها في أخطاء قاتلة حتي نسيت الجماعة نفسها وانشغلت بغير ما اختارها الشعب من أجله. لقد أعطي الشعب لجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها ما لم تحلم به.. أعطاها كل ما يمكن أن تحتاجه قوة سياسية لكي تقود بلادهاومجتمعها وفق مشروعها ومنهجها لتحقق أهداف ثورة هذا الشعب. أعطاها أغلبية برلمانية في مجلسي الشعب والشوري.. واختار رئيس الجمهورية من بين صفوفها ثم انتظر أن يري منها "نموذجها الخاص" في الحكم وإدارة البلاد بالحكمة والعدل. ووفق معايير أخلاقية جديدة باعتبارها جماعة دين وشريعة. لا يجب أن تسعي لكي تكون "قيادة" فقط بل وأن تكون في قيادتها "قدوة" أيضا تصلح بالدين فساد الساسة والسياسة ولا تفسد الدين بالسياسة وألاعيب الساسة. فهل حقق الإخوان المسلمون وحلفاؤهم شيئا مما انتظره الشعب منهم؟! لا يقول أحد: أعطوهم فرصة.. فالفرص في حالة الصراع السياسي بين قوي متعارضة يصنعها أصحابها.. لا أحد يطلب الفرصة من أحد.. ولا أحد يمنحها لأحد. سأفترض جدلا. أن الجماعة تتألف- هي وحلفاؤها- من ملائكة. وأنها- وحدها- من يسعي لمصلحة مصر. واستقرار مصر ونهضة مصر. وأن المعارضة. علي العكس. تتألف من شياطين وأنها من يسعي إلي الفوضي وإلي هدم وإغراق مصر.. وأسأل: * لماذا ينسي الملائكة أنفسهم ومسئولياتهم ويقبلوا الرقص علي أنغام الشياطين؟! إن هذا بالضبط ما يحدث علي أرض الواقع بالفعل.. ولا عذر للجماعة وحلفائها.. فالشعب جاء بهم وليس بغيرهم ليحققوا أهدافه.. والتاريخ سيحاسبهم علي ذلك. *** خذ مثلاً واحداً.. "المليونيات" التي لم تتوقف بعد استقرار السلطة في يد الجماعة وحلفائها.. بل تواصلت وتزايدت. ومعها الاعتصامات وحصار المنشآت.. وتعال نسأل: * ما الفرق في هذا بين الجماعة وخصومها؟! بين من في الحكم وفي يده القرار وسلطة الفعل ومن في المعارضة وليس أمامه لتحقيق أهدافه غير الضغط بالنزول إلي الشوارع والميادين؟! الشعب انتظر أن يري فرقا.. ولم يجده. لنفترض أن شياطين المعارضة يهدفون من وراء تنظيم المليونيات والاعتصامات وحصار المنشآت إلي إرباك من في السلطة وإلي وقف حال البلد وإلي تعطيل الانتاج حتي تعم الفوضي ويسقط النظام.. لماذا تنساق الجماعة وحلفاؤها وراءهم وتبادلهم مليونية بمليونية واعتصاما باعتصام. وحصارا بحصار حتي تصبح الخسارة الواحدة خسارتين. والوطن هو. في النهاية من يدفع من دم وعرق ومستقبل أبنائه الثمن؟! أين "النموذج الخاص" الذي يمكن لجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها أن تقدمه في الرد علي هذه المليونيات والاعتصامات والحصارات بما يبطل مفعولها ويستدعي قوي وطاقات الشعب إلي عمل جماعي يفيد البلاد. ويحرك عجلة الانتاج. ويفتح طاقة أمل للمواطنين تجعلهم يرفضون أساليب المعارضة. وينفضون عنها بدلا من أن تكسب أرضا جديدة كل يوم. إن تباهي الجماعة وحلفاؤها بتفوقها في القدرة علي حشد الأنصار والمؤيدين في المليونيات أمر يدينها ولا يصب في مصلحتها لأن العبرة ليست بمن هو أقدر علي الحشد. ولكن.. فيم يستخدم هذا الحشد.. وما الذي يحتاجه الوطن في هذه اللحظة. والجماعة وحلفاؤها. باعتبارهم في الحكم يعرفون أكثر من غيرهم كم أرهقت المليونيات والاعتصامات والحصارات مصر واقتصاد مصر وأهل مصر. وأن الوطن اليوم لا يحتاج إلي حشود في الميادين بقدر ما يحتاج إلي احتشاد بكل الطاقات في المصانع والمزارع والدواوين. *** كان يمكن - علي سبيل المثال- أن تكسب الجماعة وحلفاؤها أكثر وأن تكسب مصر اكثر وأن تكسب تقاليد العمل الوطني اكثر. لو أن الجماعة بدلا من أن ترد علي مليونية المعارضة في ميدان التحرير بمليونية أمام جامعة القاهرة حشدت فيها مئات الآلاف. وأنفقت علي نقلهم من محافظاتهم إلي العاصمة وعلي إعشاتهم طوال اليوم.. أن تعلن أنها ترد علي مليونية المعارضة بدعوة أنصارها ومؤيديها إلي يوم عمل بدون أجر. كل في موقعه. لصالح اقتصاد مصر. أو زيارة أسر شهداء ومصابي الثورة في كل المحافظات.. إلي آخره. لو فعلت الجماعة يومها ذلك.. بل ولو فعلته في أي يوم آخر في المستقبل لكسبت احترام الشعب كله ولأجبرت المعارضة علي التخلي عن أسلوبها بدلا من أن تنساق هي وراءها ولقدمت نموذجا في الحكم والقيادة يتسق مع شعاراتها الدينية. ويقنع الرأي العام بأن حياته ومستقبله في ظل حكم الجماعة وتيارها ستكون أفضل. لكن الجماعة- للأسف- لم تفعل ذلك.. بل اختارت وهي القيادة والسلطة أن تكون مجرد "رد فعل" للمعارضة وصدي لها وأحيانا بصورة أسوأ. يكفي ما شاهده الشعب كله من صور ومشاهد في الفضائيات لوقائع مليونية الجامعة هذه ولحصار المحكمة الدستورية العليا ومدينة الانتاج الاعلامي وأمام قصر الرئاسة في الاتحادية وغيرها. فالرأي العام قد يتقبل- ولو علي مضض- أن يتقافز شباب المليونيات وهم يصرخون بالهتافات الخارجية أحياناً ضد هذا الشخص أو ذاك.. لكنه يصعب أن يتقبله من أصحاب الزبيبة واللحي. الذين يفترض فيهم الوقار ويتوسم أن يكونوا قدوة حسنة لمجتمع انفلت فيه العيار. وعليهم مسئولية أن يصححوا له أخطاء المسار. *** هذا ينقلنا مباشرة إلي قضية الساعة. وهي الاستفتاء علي الدستور الذي تبدأ مرحلته الثانية والأخيرة بعد 48 ساعة من الآن. و "معركة الدستور" الدائرة في مصر منذ اكثر من ستة شهور. هي- كما قلت في مقال سابقا- مجرد "جولة" في صراع سياسي ممتد لم يبدأ بها ولن ينتهي سواء باقرار الدستور أو برفضه بل قد يحتدم اكثر.. لماذا؟! * لأننا انقسمنا حول هذا الدستور إلي فريقين ولن يتقبل أي فريق منهما الهزيمة بسهولة ولذلك أطلق عليه البعض "دستور تقسيم مصر" أي بالمعني السياسي وليس الجغرافي. ولأن الدساتير لا تطبق نفسها بنفسها. ولا تقاس بجودة نصوصها. وإنما بمدي الرضي العام عنها وفكر وفهم من يطبقونها. ولأننا أمام معضلة سياسية وتاريخية ونفسية غريبة.. فريق يقود من موقع المعارضة لأنه يري أن له حقا في القيادة ولا يقبل أن يتخلي عنه.. وفريق يعارض من موقع القيادة لأنه لم يمارس علي مدي 80 سنة إلا المعارضة ولا يصدق أنه يحكم. ولا يعرف كيف يحكم ولا الفرق بين أن يحكم.. وأن يتحكم. * ولان قوي إقليمية وعالمية تتداخل مع قوي داخلية من الجانبين.. من أجل الحفاظ علي مصالحها أولا وتحقيق أهدافها بعيدة المدي ثانيا.. لا يهمها من يكسب.. ولكن يهمها أن تكسب. لقد اقتربنا من 25يناير ..2013 لا يفصلنا عنه اليوم سوي شهر واحد وبضعة أيام ويبدو أن كلا من الفريقين يريد في الذكري الثانية للثورة أن يتوج نفسه زعيما لها وان ينفرد وحده بشرعيتها.. ولذلك احتدم في الاسابيع الماضية صراع الميادين. وحرب المليونيات وتنازع دماء وجثامين الشهداء. مصر لا تستحق من أبنائها ذلك.