1 كان منجذبا إليها بدرجة ملحوظة ممن حوله. وكانت معجبة بفكره دون انجذاب لشخصه وكانت تبدي إعجابها بحرية وتشجعه وتشيد بما يكتب وتتابع عموده الأسبوعي في إحدى الجرائد المعارضة. لكنها لما أحست بانجذابه نحوها، تعاملت بحذر وإن لم تغير طريقتها، فذلك أسلوبها عادة ثم إنها لم تكن معجبة به ككل، فهو متحرر وهي محافظة، هو لا يمارس من شعائر الدين غير شهر رمضان صوما وهي تفكر في الله وتريد أن تواظب على النوافل. لم يكن يصلح حتى أن يكون أخا صديقا لها. وفجأة بلا سابق إنذار تحول بشكل مريب وبدأ يتعامل بحساسية مفرطة وكثير من الصمت. سألته ولم تلق ردا كافياَ فلم تكرر السؤال. وجاءها الجواب بعد شهور عندما قالت لها زميلة كبيرة السن وصديقة له: "لاحظت انجذابه لك وأنت عارفة أني أعتبره أخي الصغير ونفسي أفرح بيه وكان يحدثني عنك بانبهار وشاكسته كذا مرة فكان يضحك ويسكت. ولكن حاله مش عاجبني من فترة وكلمته بصراحة.. وقال لي إنه للأسف يفكر فيك فعلاً ومحتار، وإنه ماشافش روح في جمال روحك، وبيستغرب ازاي مثقفة ومنفتحة الفكر بس لسه بتتكسف؟! سألته: ايه المشكلة؟ قال إنك نجمة في السما والنجوم لا يصلح الاقتراب منها بشدة لأن من يقترب منها يحترق.. يكفي أن نبتعد لنسترشد بنورها في العتمة". تفاجأت الفتاة بأن هناك من يفكر بهذه الطريقة.. بالذات شخص مثله فهو يسبقها في الإبداع بأعوام وله محبوه وتمت ترجمة بعض كتبه ويفوقها ثقافة وعلما وخبرة وتجارب. الغريب أنه بعد ذلك بعامين، ارتبط بفتاة عادية متوسطة التعليم وترتدي ملابس تكشف أكثر مما تستر!! 2 دامت خطبتهما سنة بعد أن ظل يقترب منها بحذر ويبتعد عنها بعنف لمدة سنتين!! كانت مفاجأة لها ولكل من يعرفهما، نشعر أنها تحبه، ونعرف أنه يحبها ونعرف أنه في أوقات يكرهها! كان يصبح جميلا ودمثا وخفيف الظل ومتورد الأذنين إذا جلس معها بمزاج رائق، وأحيانا كان يصبح عنيفا متوحشا عدائيا ويحرجها أمامنا بلا سبب ولو كذبا، حتى جاء اليوم الذي صارحها فيه بحبه ورغبته في الارتباط بها رسمياً وقد كان. وعندما صار كلاهما يحمل اسم الثاني في حلقة تزين يده اليمنى، سألته عن أسلوبه معها فيما قبل. فأخبرها أن سبب جفائه هو خوفه من أن يتعلق بها وهي الفتاة الاجتماعية المثقفة ذات الخيال الواسع والتي تعرف طوب الأرض وطوب الأرض يحبها ولا يخلو أسبوعها من حضور حفلات وندوات في الساقية ونقابة الصحفيين. قالت له: أنت كذلك أيضاً. فقال لها: أقصد أنني ظننت أنه ليس بإمكان أحد أن يكون له سلطان عليك، ولو غضبتُ منك أو أي شيء فلديك بدائل وعوالم عديدة تلجئين إليها وتغنيك عني، وكنت أرى ذلك يحدث فعلا كلما ابتعدتُ عنك. تنشغلين وتعيشين حياتك. قالت له باستغراب: بالله عليك كيف تنتظر من إنسانة لم تخبرها ما هي بالنسبة لك أن تظهر لهفتها وشوقها إليك وأنت لا تبالي بها وتسيء إليها؟ فضحك...! وخلال خطبتهما، حاولت بكل ما تستطيع أن ترضيه وتثبت له أنه - وحده- عالمها ولا بديل له. كانت تتحسس ما يريد أن يراه فيها فتقوم به قبل أن يطلب، حتى تغيّرت طريقة كلامها وصارت تقول لازماته، وخسرت ثلاثة أرباع أصدقائها ولم يتبق إلا المشتركون بينهما وأصبح تعاملها معهم محدوداً، وكتاباتها لا تدور حول شيء إلا هو. وحدث أن اختلف أمامها مع أحد الأصدقاء المشتركين، وطلب منها الصديق أن تشهد فتهربت بمحاولة تهدئة التوتر. وعندما كانت مع خطيبها وحدهما، سألها عن رأيها فيما حدث. تعرف أنه لا يحب النقد، فحاولت أن تتهرب، أصرّ فقالت له ما له بزيادة، وما عليه دون معاتبة وتهوين، ثم أكدت أنه له حق أيضا في بعض ما قاله. فثار عليها واحتدم الحوار بينهما عندما شكك في حبها له. فلما حاولت أن تذكره بما فعلته وتفعله وما تفكر في فعله من أجله، ثار أكثر وتحول لكائن شرس واتخذ ذلك دليلا على أنه ليس عالمها كما خدعته وقالت من قبل لأنها تشتاق لحياتها قبله، وفسخ الخطوبة!! 3 كانت مشاعرهما تتطاير فوق رؤوسهما وتتلقفها أعيننا فنبتسم فيما بيننا نحن الأصدقاء ونتمنى لهما الخير. حكى لي أنها لديها قدرة على أن تأخذه لعالم آخر يسعد ويهنأ به، وأنه كان يرسل إليها عمله لكي تبدي رأيها الذي يهمه كثيراً ويحب أفكارها. كان يسعد بينه وبين نفسه إن صححت له خطأً أو أضافت له جديداً. لكنه لم يقل لها ذلك، بل كان أحيانا يقلل مما تقول أو يتهمها بأنها (مزوّداها وما بتصدق تمسك عليه ذلة) فتصمت كثيرا وتغضب وينكسر خاطرها. وكانت ترسل له ما تكتبه فلا يبدي رأيه وإن أعجبه. وإن أبدى، فيكون في كلمات مقتضبة. وكان يهوى مضايقتها والضغط عليها لا لشيء إلا ليتأكد إن كانت تحتاج إليه مثلما يحتاج إليها! وقال لي إنه لمّح لها بالارتباط وتحدث معها عن مفهومه عن الفتاة الصالحة ففاجأته أنها فعلت بعض ما قال، وإنه قرر أنها (هي دي) وتمنى لو أننا نتقابل ونخرج مع بعض. وعندما مرت أسابيع على طلبه مني بالتعرف إليها وسألته، فاجأني بأنه غيّر رأيه. وبعد مداولات ونقاشات عنيفة مني لأرده لصوابه، قال إنه (أحس) أنه لن يضيف لها جديدا، فهي لديها اطلاع واسع وتهتم بأشياء وناس كثيرة، وحياتها متنوعة وأن دماغها تكفيها ولن يكون ولاؤها لأحد!! وعندما يئست من قدرته على التبصر، طلبت منه أن يشاهد فيلم Pride and Prejudice عندما حكم مستر "دارسي" وآخرون على "جين بينيت" أنها لا تبادل مستر "بينجلي" نفس المشاعر وتتعامل معه على أنه مجرد فرصة للزواج، ثم يكتشفون فيما بعد أنها تحبه أكثر منه لكنها تستحي. 4 قال لها: لديك مهارات قيادية! قالت: لا أعرف لكن في إحدى ورش الإدارة قمت بإجابة 20 سؤالا عن مهارات القيادة وفوجئت أنني في المجموعة الأولى التي يتم اختيار القادة منها! ضحك قائلا: لقد فهمتِ كلامي على أنه سؤال.. أنا لم أسألك، أنا أخبرك! أكدت له باندهاش أنها لا تعرف ولا تهتم، لكن لو كان يندرج تحت القيادة تكوين فريق عمل والإشراف عليه ومتابعته فقد قامت بذلك بنجاح الحمد لله. لكن لو عرض عليها منصب قيادي، فلن تقبله. قال بمكر: طيب وفي البيت؟ قالت: نحن الآن في مجال عمل وأنا رديت في نطاق مضمونه، عشان كده لو تاخد بالك ردي فيه مفردات العمل؛ "ورشة"، "إدارة"، "مهام"، "منصب". لكن لو كنت تقصد في البيت، فالرد السابق ماينفعش إطلاقاً. سألها: ليه؟ قالت له: لأنه معناه إني مش فاهمة الأسرة بتكون ازاي. فقال: يعني مقتنعة إن مركب بريسين تغرق؟ قالت: مش متقبلة الكلام ده على البيت لأن مفيش فيه رئيس ومرؤوس إلا إن كنت تقصد الوالدين من جهة والأولاد من جهة أخرى. لكن البيت يعني في أساسه نفس ومعاها زوجها اللي ربنا خلقها له. فيه أخد وعطا، وفيه تفاهم، وتحاور والاتنين مكلمين لبعض، إلا إن كنت عايز تكتب قصة حياتك بصوت راوٍ واحد. رد: طيب لو احتدم النقاش بينهما، مين اللي كلمته تمشي؟ قالت: كلمته حتى لو هي مش متفقة معاه. ولو أثبتت الأيام صحة رأيها، تقف جانبه خصوصا لو قرارات مادية وما شابه. سألها: ازاي تقدر تعمل كده وهي عندها مهارات قيادية؟ ردت: فيه حاجة اسمها أصول بيتفقوا عليها.. تخيل مثلا إني بمهاراتي القيادية اللي إنت شايفها بقيت ربة أسرة وأم. وبعد سنين جواز، فيه إجازة قومية قبلها جمعة وسبت مثلا، واقترحت عليه إننا نقضيها بطريقة مختلفة ونسافر عشان نفسح الأولاد. وهو شجع الفكرة، وأنا اللي قلت نروح فين وجبت له العروض وقارنت بينها واتفقت معاه وحجزت وجهزت كل حاجات السفر. وبعد ما رجعنا، الناس بتسألني، مش باينة يعني؟ هل ينفع أرد وأقول إن فكرة السفر طلعت في دماغي فعملت وحجزت وسويت! طبعاً لأ.. باقول لهم، والله عباس (الاسم الحركي) خدنا وسافرنا، قضينا يومين حلوين والأولاد انبسطوا. هاديك مثال تاني، أنا دلوقت أم كبيرة وبنوتي عروسة وفيه واحد معجب بيها. مش هيكلمني أنا الأول إلا عشان أفهم الحدوتة بالضبط وأمهد له الطريق عند باباها لأن فيه شوية عراقيل. لكن في الأول والآخر هيبقى اسمه اتقدم لباباها وباباها وافق وأنا يدوب وقفت وراهم أسح دموع الفرحة. قال للمرة الثانية بنبرة زهو: ايوه بقى.. مقتنعة إذن إن مركب بريسين تغرق! قالت: اللي هيفكر إن لازم البيت فيه رئيس ومرؤوس بالشكل القاطع ده هيعيش لوحده. وأنهت كلامها بإنه لما يكون هو عارف إنها دماغ وعندها مهارات قيادية لكنها بتقول له - إيمانا بيه-: إنت الراجل ورب البيت والدفة في ايدك، فده أجمل، لأنه هيكون متأكد إنه لو ابتعد عن البيت لأي سبب، الدنيا مش هتبوظ، وهيعتمد عليها لما يتعب وفي أوقات الشدة. لكن لو هي بدون المؤهلات دي، هيضطر إنه طول عمره يبقى ماسك الدفة ومش عارف لا يبص شمال ولا يمين وساعتها ممكن تغرق لو نعس وخد له غفوة!! 5 بعد سنين، تقابلوا في لم الشمل ضمن حدث سعيد لأحد الأصدقاء. سألها عن حالها وأخبارها، وعن آخر ما فعلته. كان يقصد الكتابة.. لم تكن قد كتبت منذ فترة. فقالت: والله آخر حاجة عملتها ذات قيمة كانت صينية مكرونة بالبشاميل امبارح". لم يصدق حتى أقسمت ولم تعد تندهش من ذلك. قال: "لا يمكنني أن أتخيلك في المطبخ". قالت: "لا تتخيلني". قال: "أقصد.. لا أصدق أن الفتاة الكاتبة المتأملة دائما والحالمة أحيانا يكون لها في أشغال المطبخ وتقف تشمر وتقلي وتقطع بصل". قالت: "ألستُ بنتا؟!" * * * * * * المواقف والحوارات السابقة حدثت بالفعل ويبدو أنها ستظل تحدث في مجتمعنا لو لم يتطور فكره. ينشغل فيها الشاب بموقعه من قيادة بيت لم يقرر بعد أنه سيكون سيده. ولو تشكك للحظة دون سبب وجيه أنه (قد) لا يكون الرأي الأوحد ولن يسمع دائما "حاضر"، يصدر أحكاما مسبقة على الفتاة الدماغ. ويقوم ببطولة الانسحاب المفاجئ بطرق مختلفة والسبب الحقيقي وراء كل الأسباب المُقنّعة التي يبديها للآخرين واحد فقط؛ أن هذه الفتاة دماغ وأنه يخشى أن يستيقظ يوما فيسمع صوتا غيره في البيت ويجدها تقول وتتصرف بدلا منه. يعني باختصار، هو نفس السبب الذي لأجله قامت الثورات العربية؛ انفراد فئة أو شخص أو أسرة بالسلطة وتهميش كل الشعب!! وعندما يُقال عن فتاة إنها دماغ فذلك يعني أنها ذكية وتفكر بأسلوب مميز ولها رأي ورؤية نافذة، وقد يكون لها نشاط فكري فتعمل في أي مجال إبداعي. ولتوضيح أكثر، أنا لا أقصد هنا المفهوم الشائع والجائر عن الفتاة المثقفة المتحررة التي تقضي وقتا كبيرا في حفلات ومقاهٍ وتعود بعد منتصف الليل وتتساهل في التعامل، وتتحرر من أغلب القيود المتفق عليها في مجتمعنا. ولكن أقصد الفتاة المعتدلة التي تستخدم ثقافتها فيما ينفع ولها رأي يعتد به وشخصية يحترمها المحيطون بها. الفتاة المصرية التي تفهم الحرية في إطار ما يفرضه عليها دينها والعرف، والتي ما زالت تلهبها عقارب الساعة وتحب أغنية "بنات" لمنير لأنها تنطبق عليها. وكثيرا ما يتعرض هذا النوع من الفتيات لمضايقات وتشكيك في سلوكهن الملتزم لأن الفكرة الشائعة عن المثقفين تشبه تلك الشائعة عن الوسط الفني، وهي تعميم غير صحيح بسبب فهم البعض الخاطئ لمعنى التحرر. ولكن بعد أن يثبت أنها ليست كالكل، تكون الصديقة المفضلة لدى كثير من الزملاء حولها فيتعاملون معها بمنتهى الاحترام. لكن ما يثير العجب هو اعتراض نسبة كبيرة جدا من الشباب على الفتاة المثقفة، وتخوفه من الارتباط بها مع تمنيه الاحتفاظ بها لتظل في مداره دون صفة! أما إن غلبه الحب وأعطاه بعض الجسارة فهزم خوفه، وفكر في الارتباط بها، يضع شروطا لتحجيم نشاطها ربما تصل لإيقاف مشروع كتاب أو ديوان كانت بصدد طبعه. علاوة على تحجيم علاقاتها وطريقة تعبيرها في الحياة وعلى الفيس بوك وما تشاركه في الستيتس. بالطبع أتفهم جداً رغبته وحقه في تحجيم علاقاتها خصوصا إن كانت تعمل ولديها زملاء وتشارك الجميع أطراف الحديث. لكن لا أتفهم ظلمه لها دون أن يتحقق وإصداره حكماً بأنها لا ولاء لها، وأنها ستكون مصدر قلق أو جبهة معارضة تهدد سطته في البيت فيما بعد. السؤال: لماذا يتم التعامل معها على أنها (وَحش غير مسيس) أو (كائن برّي) لا يصلح لحياة البيت والقيام بمسئولياته؟ فهي نشأت مثله في بيت أيضا ولم تكن نبتا شيطانيا في صحراء!! ولماذا حتى عندما تفعل ما يريده ويطمئنه وتحجم علاقاتها ونشاطاتها، فغالبا يظلّ قلقا مترددا، بل ويخضعها لاختبارات وأساليب ضغط غريبة دون أن يوجد ما يؤخذ عليها في الأخلاق والالتزام؟ تلك الأسئلة التي تهم الكثيرات لم أجد لها إجابات ملموسة غير (شوية مخاوف) من الشاب وقد تكون غير حقيقية. وإن أجاب أحد بأن المشكلة لدى الشاب وأنها قد تكون أزمة ثقة في النفس، فلا يمكن تعميم هذا الاحتمال. ففي أغلب النماذج السابقة، كان الشاب له ثقل وشخصية مميزة ومسئول. وحتى إن تعرض لأزمة أو اهتزت ثقته في نفسه، كانت هي التي تردها إليه لثقتها فيه!! ولو تطرأتُ لغرور الرجل، فسأجد أن رفض الفتاة المفكرة يتنافى مع غروره، لأنه مدعاة للفخر والزهو - بينه وبين نفسه على الأقل- أن فتاة بتلك القيمة تحبه وتطيعه وتفعل ما بوسعها لإرضائه. إذن ما السبب الحقيقي؟ هل يعقل أن نصادر حقها في الحياة كأنثى بسبب ميزة خصها الله بها؟ هل يعني ذلك أننا ما زلنا في مستوى دون الوعي نحتكر مهنة التفكير والإبداع للرجل؟ ومن تشذ عن هذه القاعدة نحتفي بها ونصادقها ونحبها لكن لا نتزوجها؟! هل يعني وجود العقل المفكر للفتاة أنها بلا قلب أو بلا مشاعر أو بلا مهارات بيتية وبلا رحم؟ أي هل نظن - دون أن نعي- أن اتخاذها سبيل التفكير الذي كان مقتصرا على الرجل ينفي كونها أنثى قادرة على القيام بواجباتها كزوجة وأم بما يرضي الله ويتسق مع الأعراف؟ بالطبع لا خلاف على أن هناك أصولا يجب اتباعها داخل الأسرة، وديننا الجميل اهتم بذلك جدا وزودنا بالأسس التي عليها تقوم قواعد التعامل بين الزوجين. لكن لم يتعرض أبداً إلى ذكاء الفتاة، ولم يأمر أبداً بتحجيمه وقص ريش أفكارها. لو فعل ذلك، لما كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أكبر رواة الأحاديث، ومن يقرأ الأحاديث التي روتها رضي الله عنها سيعلم أن إليها تعود أغلب الأحاديث التي تتناول حياة رسول الله في بيته وتعامله مع أهل بيته وحتى في مضجعه والتي تؤسس للحياة الزوجية في الإسلام. الغريب في الأمر أننا إذا قارنّا بين الماضي والآن سنجد أن الرجل المتعلم في مصر الحديثة كان يسعى للارتباط بفتاة متعلمة أو تدرس حينما كان تعليم الفتيات نادراً. وكان أهل العريس يتباهون بأن عروس ابنهم ليست فقط جميلة أو بنت ناس، لكنها تدرس في معهد المعلمات مثلاً. لكن في الوقت الذي صار فيه الجميع متعلما ومتنوراً، يتخوف الشاب من الفتاة المثقفة ويطالبها أن تقدم له قرابين الولاء والطاعة قبل أن يكون لها منصب في حياته يسمح له بطلب ذلك. وعندما أثيرت الفكرة بين الأصدقاء، قال لي أحدهم: أصل العين ما تعلاش على الحاجب! قلت له إن هذا المثل يضرب صميم مشكلة من مشاكلنا الاجتماعية (الأخذ بالمظاهر)! فالمثل أعطى للحاجب مقاما بارزا نظرا لوضعه فقط فوق العين. لكن ما الذي يرى، ويتفاعل، ويحمر، ويدمع، ويرسل إشارات الفكر والمشاعر؟ العين وليس الحاجب. السؤال الذي يلح عليّ الآن - بجانب الأسئلة السابقة - ما الخطأ في أن تكون الفتاة مثقفة ولها دور مع من حولها وسيقتصر هذا الدور على من يختارها وترضاه فيما بعد؟ وما المطلوب من البنت الدماغ.. هل تتعامل مع كل الشباب والزملاء حولها على أنهم أزواج محتملون إلى أن يثبت العكس فتمثل السمع والطاعة؟ أم هل تخفي ما حباها الله به حتى لا تتم مصادرة مهاراتها النوعية الأساسية كأنثى وحتى لا يتم التعامل معها على أنها كائن برّي يجب ترويضه قبل أن يدخل البيت؟ كيف تخفي عقلها وهو شيء لا يمكن إخفاؤه للأسف إلا بالخرس وهو صعب على البنات؟!!