في العام الخامس والثلاثين من هجرة النبي - صلي الله عليه وسلم - استيقظت المدينةالمنورة على خبر مفجع وهو مقتل ثالث الخلفاء الراشدين ذي النورين عثمان بن عفان- رضي الله عنه- على يد مجموعة من الثوار المنافقين، تحت مزاعم وإدعاءات أثبت التاريخ المنصف كذبها وافتراءها. وانطلق القوم يبايعون الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وعلي رأسهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، ليكون خليفة للمسلمين، ورفض الإمام في بادئ الأمر غير أنه نزل على رغبتهم ليتحمل مسئولية الأمة في تلك الظروف الدقيقة الصعبة. غير أن هناك من الصحابة وعلى رأسهم كاتب الوحي لرسول الله - صلي الله عليه وسلم - معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - من رفض أن يتم البيعة ليس طمعاً في الخلافة ولكن بغية القصاص لدم الخليفة زوج بنتي النبي - صلي الله عليه وسلم. وهنا بدأت الفتنة تطل برأسها القبيح وانقسم القوم إلى فريقين. الفريق الأول يتقدمهم الإمام علي - رضي الله عنه - ويرون أن الخير يكمن في إعادة الاستقرار للمدينة النبوية التي تعج بالثوار، واستعادة هيبة الدولة والنهوض بها من جديد بعد هذا الحادث المشين الذي نال من كبريائها وهيبتها. واستندوا في رأيهم علي حقيقة أن الثوار ما زالوا في المدينة يبثون شرورهم وأن الفتنة تنطلق كالنار في الهشيم. كما أن القوة العسكرية اللازمة لفرض النظام مرة أخرى وإعادة الاستقرار والأمن غير موجودة، نظراً لاشتراكها في الفتوحات الإسلامية الممتدة شرقاً وغرباً. ومن ثم فإن الدخول في معركة داخلية في هذا الوقت العصيب سيريق الكثير من الدماء. نعم قد يتحقق القصاص ولكن بكم من الضحايا. أما الفريق الثاني فتقدمهم الصحابي الجليل معاوية - رضي الله عنه - الذي بعثت إليه السيدة "نائلة" زوج عثمان قميصه الذي قتل فيه تلطخه دماء الخليفة الذكية، كما بعثت إليه بأصابعها التي قطعت على يد الثوار حين دفاعها عن زوجها، الذي قتله الثوار وهو في الثانية والثمانين من العمر. واستندوا في رأيهم على أن القصاص من القتلة واجب شرعي وحد من حدود الله، لا يملك أحد أن يعطله أو يؤجله، كما أن في ذلك حفاظاً على الحق وعلى هيبة الدولة وتطهيراً لمدينة رسول الله من الدنس الذي نزل بها. وكان ما كان من أحداث أدمت لها القلوب، وبقي لنا من الموقف العظة وحكم التاريخ الذي بيّن لنا أياً من الفريقين اجتهد فأصاب وأياً منهم اجتهد فأخطا. ونحن إذ لسنا أهلا للحكم علي صحابة النبي الأطهار، إلا إن هذا لا يمنعنا من الإشارة إلي أن المواقف وتبعاتها بينت أن رأي الإمام علي - رضي الله عنه - في تثبيت أركان الدولة أولا ومن ثم الانطلاق إلي حيث يريد القوم كان هو الرأي الأكثر صوابا، وهو ما جزمت به الوقائع بعد ذلك، ولكن بعدما تناحر الفريقان وغرقا في بحر من الدماء. والشاهد أن مصرنا الحبيبة تمر بموقف مشابه، إلى حد كبير، لما مرت به مدينة رسول الله - صلي الله عليه وسلم. فهناك قتلة وهناك شهداء وهناك بلد فقد ما كان يتميز به وهو أمنه الذي أكده القرآن: "وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، والإنجيل "وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلاً قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر". إن شعبنا وبلدنا الحبيب يتمزق بين فريقين كلاهما على صواب. فالأول يريد إقامة الدولة واستعادة هيبتها ومن ثم محاسبة كل المخطئين ولا سيما أن معظمهم في السجون فعلا، أي أنهم لن يهربوا ولن يفروا. والثاني يريد إقامة العدل والقصاص من الذين قتلوا فلذات أكبادنا غدراً وخيانة لله والوطن. إن الفريقين محقان كل الحق غير أن أولوياتهما تختلف، فمنهم من يرى اننا ما زلنا نترنح من تبعات الثورة المجيدة كما أن هناك بعضاً، غير يسير، من الخيوط في أيدي أعداء الثورة، الذين عاثوا في الأرض فساداً لما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمان. ومنهم من يري أن البلد ازداد قوة على قوة، لذا فالوقت مناسب للقصاص ولرد المظالم التي حجبت لسنوات طويلة، لا يعرف مرارتها إلا من ذاق صبرها. إن الفريقين فيهم الخير وكلاهما يؤيد مطالب الآخر، ولكن عليهما أن يرجعا إلى التاريخ لينظرا أي المطالب المشروعة أولى. فالله الله في مصر والله الله في أنفسنا.