أخيرا وبعد حيرة طويلة بدأت منذ أغسطس 2008 وهو تاريخ تطبيق قانون المرور الجديد (كما كان يدعى في ذلك الوقت) اتضحت أمامي الصورة كاملة وأدركت الحكمة وراء المواد التي تضمنها هذا القانون. فأنا شخصيا كنت من المتحمسين لهذا القانون قبل صدوره، وكنت أتوقع أن يساهم مساهمة فعالة في تحسين حالة المرور وزيادة السيولة في الشوارع، فمثلا كنت أتوقع أن يتم تشديد العقوبات على أي مركبة تتسبب في تعطيل المرور، وتشديد الرقابة على سيارات الأجرة والميكروباص، وكذلك التأكد من الشفافية والمساواة في تطبيق القانون، ومنع أي من المنتمين لجهاز شرطة المرور من المشاركة في ملكية سيارات الأجرة والميكروباص. كنت أتوقع أيضا أن يتم تكثيف التواجد المروري في الشوارع لتحقيق السيولة (كما نشهد في أيام رمضان) والبدء في تفعيل القواعد المرورية المطبقة في كل الدول المتحضرة والدول "النص نص" وكثير من الدول المتخلفة، فنحن ننفرد بالديمقراطية الشديدة في شوارعنا، فأنت تستطيع الوقوف حيث تريد ولا تبالي بالقرب من الرصيف أو تعطيل السيارات الموجودة خلفك (فكلنا إخوات ونستحمل بعض) وكذلك تستطيع التجاوز من اليمين أو الشمال والتنقل بين الحارات بحرية في حيرة أبدية لجمهور السائقين بحثا عن الحارة "السالكة"، وغيرها من السلوكيات الغريبة التي تسبب حالة الاختناق الشديدة في الشوارع. ولدهشتي الشديدة صدر القانون وهو يتضمن بشكل أساسي بعض المواد التي بدت لي في هذا الوقت غير منطقية، مثل التركيز على عقوبات الحزام والتحدث في المحمول، وكذلك المثلث وشنطة الإسعاف، والتعرض على استحياء لبعض المخالفات المرورية مثل السير عكس الاتجاه. ولبعض الوقت أرجعت سبب هذه القوانين إلى أن المجموعة التي وضعتها كان في ذهنها مفهوم "اللجنة" التي تعتبر أكثر الوسائل انتشارا في مصر للمراقبة المرورية، فنحن لا نمتلك الوسائل الفعالة لفرض المراقبة المستمرة على الشوارع ونفضل أسلوب "اللجنة"، حيث يقوم بعض ضباط المرور بايقاف السيارات والتفتيش عليها للتأكد من عدم ارتكابها أي مخالفات، وبالطبع بما أن هذا التفتيش يتم من الوضع واقفا فيجب أن تكون المخالفات قابلة للتفتيش من هذا الوضع وهذا لا ينطبق على معظم المواد التي توقعت أن يتضمنها أو يشدد عليها القانون "الجديد". ولكنني مؤخرا أدركت خطأ هذا التفكير وتفهمت الحكمة من هذه القوانين، وذلك عندما بدأ تركيب مجموعة من الكاميرات على بعض إشارات المرور الأساسية حيث تقوم بتصوير السيارات المخالفة، فمن الواضح أن رجال المرور كانوا يخططون لتركيب هذه الكاميرات منذ فترة، ولاهتمامهم بالمظهر الحضاري لمصر وشعب مصر فقد تأكدوا أن يظهر هذا الشعب في أفضل صورة. والآن تخيل معي كيف يظهر الشارع المصري في هذه الصور، مجموعة من السائقين المحترمين كلهم يربطون حزام الأمان ويضعون سماعة البلوتوث، وفي الخلفية تظهر في السيارة طفاية الحريق مع المثلث وشنطة الإسعاف، وفي مقدمة السيارة اللوحات الأنيقة بالحروف والأرقام. فمن الواضح أن شوارعنا تظهر في منتهى التحضر في الوضع الثابت وفي قمة التخلف والهمجية في الوضع المتحرك، وهذا قد يكون تفسير البطء الشديد واللامبالاة في اتخاذ الإجراءات التي تساعد في تحقيق السيولة، حيث إنه في وقت قصير ومع تزايد كثافة السيارات في شوارع القاهرة وقلة الوعي المروري من قائديها، سوف يختفي الوضع المتحرك "الهمجي" وسوف ينتشر الوضع الثابت أو شبه الثابت وهكذا سوف نصبح من الدول المتحضرة مروريا والحمد لله.