"الصغار الذين يواجهون الدبابات في فلسطين يفعلون عملا جنونيا، يختارون لحظة مطلقة من المعنى والقدرة، حرية مركّزة وبعدها الموت، يشترون لحظة واحدة بكل حياتهم، هذا جنون، ولكنه جنون جميل، لأن اللحظة أثمن من حياة ممتدة في وحل العجز والمهانة". هكذا كانت ترى الكاتبة الروائية والأديبة رضوى عاشور، رحمها الله، زوجة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي. التقت زوجها أثناء الدراسة في جامعة القاهرة، وتزوجا في عام 1970، وُلد ابنهما تميم في عام 1977، وفي العام نفسه تم ترحيل البرغوثي مع العديد من الفلسطينيين الآخرين، من مصر في الفترة التي سبقت زيارة السادات إلى القدسالمحتلة. لم يتمكن البرغوثي من العودة إلى مصر إلا بعد 17 عاما، مما أجبر الأسرة على العيش في بلدين، وقد عمل في نهاية المطاف في الإدارة الإعلامية لمنظمة التحرير الفلسطينية في بودابست، المجر، حيث كان يزور زوجته وابنه "تميم" كل عطلة صيفية. رضوى المقاومة ظاهرة تلفت الانتباه وتثير التأمل والتساؤل حول كل هذا الفيض من الحضور والمحبة والاستدعاء رغم الرحيل والغياب منذ قرابة ثلاثة أعوام ونصف، احتشدت صفحات موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، منذ أول أمس الخميس، بصور شخصية لها ومقولات مجتزأة من رواياتها وصفحات وأجزاء من أعمالها، ما زال الحضور عارمًا وما زالت المودة راسخة، وما زال الأثر ممتدًّا. 70 عامًا على ميلاد الكاتبة المصرية؛ المبدعة والناقدة والأكاديمية، رضوى عاشور (1946-2014)، التي استحقت بلا جدال مكانة خاصة ومتفردة في نفوس محبيها؛ من تلامذتها وقرائها ومتابعيها، بما تركته من سيرة "أطول من عمر"، وكتبٍ صارت من أهم ما أخرجته المكتبة العربية؛ نقدًا وإبداعًا وسيرة، في العقود الأخيرة، وأخيرًا بنضال إنساني وقومي ووطني صار مضرب الأمثال. ولدت رضوى في القاهرة، في عائلة أدبية وعلمية: والدها مصطفى عاشور محام وله باع طويل في الأدب. والدتها، مي عزام، شاعرة وفنانة، لقد أشارت رضوى في كتاباتها كيف أنها ترعرعت على تلاوة النصوص الشعرية للأدب العربي من قبل جدها عبد الوهاب عزام، وهو دبلوماسي وأستاذ للدراسات والآداب الشرقية في جامعة القاهرة، وهو أول من ترجم "كتاب الملوك الفارسي (شاناما)" إلى اللغة العربية، فضلا عن كلاسيكيات شرقية أخرى. دخلت كلية الأدب المقارن في جامعة القاهرة خلال الفترة ما بين أواخر الستينات وأوائل السبعينات، حصلت على الماجستير في عام 1972، ثم تقدمت للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة ماساتشوستس في أمهرست؛ عملت على الأدب الأمريكي الإفريقي، ومنحت الدكتوراه في عام 1975، ثم عادت إلى القاهرة، إلى جامعة عين شمس، حيث درّست في ظروف غالبا ما كانت صعبة داخليا وخارجيا. الطنطورية والثلاثية وفي رواية "الطنطورية" يطلب الابن من أمه كتابة مذكرات أو سيرة ذاتية، تستعرض من خلالها أهم محطات حياتها المزدحمة بالأحداث، منذ خروجها مرغمة من قرية الطنطورة الساحلية بعد نكبة 1948، إلى استقرارها في لبنان مرة أخرى مع مطلع الألفية الجديدة، بعد تيه تلاعب بها في الشتات بين لبنان والإمارات ومصر. توافق مرغمة، بعدما وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع ذاكرة بذلت ما في وسعها لسد كل ثقوبها، لتبدأ الحكي ونتابع معها مزجا بين سيرة امرأة وملحمة شعب اسمه الشعب الفلسطيني، إنها رواية "الطنطورية"، صدرت لأول مرة عن دار الشروق عام 2010، وما زالت طبعاتها تتوالى حتى الآن، محققة نجاحا جماهيريا لا يقل بأي حال من الأحوال عن نجاح "ثلاثية غرناطة"، إبداع رضوى الأشهر. التاريخ يكتبه المنتصرون، لذا نرى أن الرواية أو العمل الأدبي بوجه عام، أكثر صدقا من كُتب التاريخ، ولأن الاحتلال الصهيوني، يفعل ما في وسعه من أجل طمس الهوية الفلسطينية، وتغييب القضية الفلسطينية، فإن كتابة الروايات والقصص القصيرة من أجل تأريخ النكبة والمقاومة، يظل حائط الصد الأخير أمام معاول الاحتلال. وفي هذا الصدد تقول رضوى في آخر حوار لها قبل رحيلها: "فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي حاضران بقوة فى تاريخنا المعاصر وتجربة جيلى، وأيضا فى تجربتى الشخصية وهو ما يفسر حضورهما فى نصوصى الروائية". وتضيف: "قبل الطنطورية بسنوات كتبت "أطياف وقطعة من أوروبا"، تناولت فيهما الموضوع بشكل جزئى، ولكننى أعتقد أن هذا الحضور يمتد إلى نصوص أخرى لا تتناول هذا الموضوع وإن بقى فى هذه الحالة كالطيف خارج النص يمنحه بعض معناه، وقد يُفسِّر شكله ومساره". موضحة:" فى الطنطورية اخترت أن أكتب حكاية امرأة متخيلة من قرية الطنطورة وهى قرية فلسطينية ساحلية جنوب مدينة حيفا. لم تعد القرية قائمة بعد احتلالها وطرد أهلها وتدمير بيوتهم. تتبّع الرواية مسار رقية وأسرتها عبر نصف قرن من نكبة عام 1948 حتى عام 2000، وتنتقل معها من قريتها إلى جنوبلبنان ثم بيروت ثم مدن عربية أخرى". وعندما سئلت لماذا «الطنطورية» الآن؟، أجابت:" ربما لأنني أردت أن أكتب النكبة منذ سنين، والآن وقد تجاوزتُ الستين أردت أن أحقق ما أريد قبل أن أرحل، المحرِّك المباشر يبقى غامضًا، ربما تكون ردًا بطريقة الروائيين، على الخطاب الرسمي الذي يدفع إلى التسليم بأن الساحل الفلسطيني (أقصد عكا وحيفا ويافا) صار إسرائيليًا، وأن علينا أن نقبل بهذا الأمر الواقع".