هذا الجيل –جيل التمكين– ليس مجرد أفراد متناثرين هنا وهناك لا يشعر أحدهم بالآخر، بل هو جيل مترابط متآخٍ كالبنيان المرصوص يشد بعضه أزر بعض. فالأخوة هى الرباط الذى يربط أفراده ليشكلوا جميعًا صفًّا واحدًا لا اعوجاج فيه: ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ? [الصف: 4]. هذا الترابط الذى ينبغى أن يكون بين أبناء الجيل الموعود، له دور كبير فى تحقيق الهدف المنشود، فهو وسيلة عظيمة لحماية الأفراد من الفتور أو التأثر السلبى بالهجمات التغريبية التى تتعرض لها الأمة، وهو كذلك يعينهم على الثبات ومواصلة السير، ومن خلاله يكون التنافس على الخير، والتواصى بالحق، والتواصى بالصبر. نماذج مشرفة ولأن الجيل الأول هو النموذج الذى نراه أمامنا وقد تحقق فيه وعد الله بالنصر والتمكين فإن من الطبيعى أن نرى هذه الصفة وقد تجلت فيه بوضوح، وظهرت آثارها فى أقوال وأفعال أبنائه، ولقد قام صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة من مكة إلى المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فى دار أنس بن مالك، وكانوا سبعين رجلًا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، وعلى أن يتوارثوا بعد الموت دون ذوى الأرحام، إلى حين واقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل: ?وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض? (الأنفال: 75). رد التوارث دون عقد الأخوة. [زاد المعاد لابن القيم 2 / 56]. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدًا لا لفظًا فارغًا، وعملًا يترابط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر، وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج فى هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال [فقه السيرة لمحمد الغزالى / 179، 180]. روى البخارى أن المهاجرين لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع رضى الله عنهما، فقال سعد لعبد الرحمن: "إنى أكثر الأنصار مالًا، فاقسم مالى نصفين، ولى امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لى، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك فى أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بنى قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن...". الإيثار مع الحاجة إن رابطة الأخوة والحب فى الله لمن أوثق الروابط التى تجمع بين المؤمنين بصفة عامة، وبين جيل التمكين بصفة خاصة.. هذه الرابطة يمكنها أن تشتد وتشتد حتى تصل لآفاق عالية لا يمكن لعقل أن يصدقها. تأمل وصف الله للأنصار وكيف تعاملوا مع إخوانهم المهاجرين: ?وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ? (الحشر:9). يقول القرطبى: كان المهاجرون فى دور الأنصار، فلما غنم عليه الصلاة والسلام أموال بنى النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين فى إنزالهم إياهم منازلهم، وإشراكهم فى أموالهم ثم قال: (إن أحببتم قسمت ما أفاء الله على من بنى النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكن فى مساكنهم وأموالهم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم) فقال سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ: بل نقسمه بين المهاجرين، ويكونون فى دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار). لقد آثروهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم لا عن غنى، بل مع احتياجهم إليها. [الجامع لأحكام القرآن للقرطبى 18 / 17 – 19]. ومما يؤكد أن الإيثار كان سمة عامة فى تعامل الجيل الأول مع بعضهم البعض ما أخبر به ابن عمر رضى الله عنهما أنه أُهدى لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: "أخى فلان أحوج منى إليه، فبعث بها إليه، فبعث ذلك الإنسان إلى آخر فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة". [إحياء علوم الدين لأبى حامد الغزالى 2/ 271].