وسط أحداث العنف الأخيرة تدق أجراس الخطر مجددا في المجمع العلمي بقلب القاهرة لتعيد للأذهان مرارة ذكرى الاعتداء الآثم على هذا المبنى الذي يشكل علامة هامة في التراث الثقافى المصري ومحاولة حرقه بالكامل بزجاجات المولوتوف في نهاية عام 2011. وحذر الدكتور عبد الرحمن الشرنوبى الأمين العام للمجمع العلمي في تصريحات صحفية مما وصفه "بقيام مجموعات من البلطجية بالاعتداء بشكل يومى على مبنى المجمع، مضيفا أنهم يقومون بالتجمع فوق الحواجز الأسمنتية التي تغلق شارع القصر العينى ورشق نوافذ وحديقة المجمع بالحجارة ويحاولون التسلل إلى داخله بهدف سرقته، كما تمت محاولة إشعال بعض الحرائق فيه". وطالب الشرنوبى بحماية المجمع العلمى الذى تكلف ترميمه بعد حريق نهاية عام 2011 ستة ملايين جنيه، داعيا المثقفين والمواطنين إلى الحفاظ على هذه الثروة العلمية، فيما لم تمح من الذاكرة الوطنية المصرية جريمة إشعال النار فى مبنى تحول إلى رمز من رموز حضارة مصر وعقلها ورسالتها الحضارية وقوتها الناعمة. وتدق أجراس الخطر الآن لأن بعض العناصر تستخدم زجاجات المولوتوف الحارقة فى سياق الاشتباكات وأحداث الشغب التى تجسد ثقافة العنف المضادة لروح ثورة يناير وثقافتها، فيما ينزف قلب مصر غضبا وألما. وكانت الأجهزة الأمنية قد قامت ببناء جدار خرساني جديد في شارع قصر العينى من اتجاه منطقة "جاردن سيتى"، فيما تم دفع المزيد من التشكيلات الأمنية فى محيط مجلس الشورى كإجراء احترازي، خاصة بعد إتلاف واجهة مبنى وزارة التموين وبعض المحتويات في الداخل. وأسس المجمع العلمي يوم العشرين من أغسطس عام 1798 وانتقل لفترة بعد رحيل الغازى الفرنسى من العاصمة إلى الثغر السكندرى ليعود ثانية للقاهرة وتنتظم أنشطته اعتبارا من عام 1880 بجلسات شهرية ومحاضرات علمية وثقافية لكوكبة من خيرة العلماء فى مصر والخارج . ويقع المجمع العلمى فى بداية شارع القصر العينى من ناحية ميدان التحرير، وتوالى على رئاسته أسماء كبيرة وشهيرة فى مجال العلوم والثقافة مثل الدكتور سليمان حزين الذى تبنى خطة تطوير المجمع. والى جوار المجمع العلمى الذى يضم أكثر من ربع مليون كتاب ووثيقة تاريخية تقع الجمعية الجغرافية المصرية التى تعد من أقدم ست جمعيات جغرافية على مستوى العالم، وتحوى بدورها كنوزا ثقافية لا تقدر بثمن ضمن ما يعرف "بالقاهرة الخديوية" بتراثها المعمارى الحاضر فى حياة سكان القاهرة وواقعهم اليومى. وتعبر منطقة القاهرة الخديوية نسبة لفترة الخديوي إسماعيل بتكويناتها المعمارية المميزة عن التفاعل الثقافى الحضارى النشط بين مصر وأوروبا فيما تمتد هذه المنطقة لتشمل أحياء وشوارع مميزة فى قلب القاهرة بصروحها المعمارية فى عابدين وباب اللوق والفلكى ولاظوغلى وشارع مجلس الأمة والشيخ ريحان ومحمد محمود والقصر العينى والجامعة الأمريكية ووصولا لباب الخلق والعتبة. وكانت بعض العناصر المتظاهرة قد حاولت، أمس الأول الإثنين، اقتحام مبنى محافظة القاهرة القريب من قصر عابدين التاريخى. ومن الأسماء التاريخية الشهيرة التى اقترنت بأنشطة المجمع العلمى والجمعية الجغرافية محمود الفلكى الذى كان خبيرا فى علوم الفلك وعالم الرياضيات علي مشرفة، والدكتور أحمد زكى العالم الكبير ومؤسس مجلة العربى التى تصدر من الكويت والطبيب النابغة على إبراهيم والفرنسى ماسبيرو المتخصص فى التاريخ المصرى القديم. وسواء على مستوى الانسان او المكان فان المجمع العلمى يحتل مكانة فى الذاكرة الثقافية المصرية التى يتعين الحفاظ عليها وحمايتها بكل السبل فى مواجهة التداعيات العبثية للعنف وحالات الانفلات التى شجعت بعض الخارجين على القانون للعدوان على المنشآت العامة واماكن عزيزة فى الذاكرة الثقافية لمصر والمصريين. ورغم الضغوط المالية وفى سياق توجه جدير بالاشادة لتجميع الذاكرة الثقافية المتناثرة، كان وزير الثقافة الدكتور محمد صابر عرب قد افتتح أمس الأول المرحلة الأولى للمشروع القومى لمتحف الشخصية القومية المصرية "الذاكرة الثقافية"، فيما يهدف المشروع لجمع وحفظ وتصنيف ودراسة وعرض المنتج الثقافى المصرى وإثراء الثقافة الإنسانية بالحفاظ على الاختلاف والتنوع الثقافى. ويعد هذا المتحف بمثابة مؤسسة علمية وثقافية للقيام بدور هام فى الحفاظ على التراث وعناصر الثقافة المصرية وتأكيد شخصية مصر بعمقها الحضارى وسط امواج الاستلاب والتنميط فيما كانت مصر قد احتفت ايضا فى شهر يناير الذى يوشك على نهايته بفن الخط العربى باستضافة "المهرجان الدولى للخط العربى" وتعكف مكتبة الإسكندرية على تنفيذ مشروع لاعداد مكتبة رقمية للنقوش والكتابات العربية . ومن المثير للأسى العميق ان يشهد العالم العربى الاسلامى احداثا متكررة لحرق التراث وتدميره او سلبه ونهبه لعل اخرها مايحدث فى خضم المعارك الدائرة بمحيط مدينة تمبكتو فى مالى عندما احترق مبنى يحوى مخطوطات تاريخية نفيسة فى تلك المدينة التى كانت بحق من اهم العواصم الثقافية الاسلامية فى القارة الافريقية خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر. ومدينة تمبكتو بكنوزها الثقافية ككل مدرجة على قائمة منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" كأحد مواقع التراث العالمى الانسانى، فيما أفادت تقارير ان المكتبة التى احترقت ضمن "مركز احمد بابا" تضم الاف المخطوطات الاسلامية التى لا تقدر بثمن. واذا كانت روما تباهى بأنها اكبر متحف مفتوح فى اوروبا فان القاهرة بتراثها الثقافى البالغ الثراء والتنوع هى اهم واكبر مفتوح فى افريقيا وواحدة من اهم واكبر المتاحف المفتوحة فى العالم قاطبة وللقاهريين ذاكرتهم الجمعية عن ايامهم ولياليهم الجميلة تماما كما يتحدث كريج تايلور فى صحيفة الجارديان البريطانية عن ايام وليالى اهل لندن. ويعد المجمع العلمى المصرى المجاور لمقر مجلس الوزراء والذى يدخل الخشب بكثافة فى مكوناته البنائية العريقة احد اصول الرأسمال الثقافى والرمزى لمصر التاريخية وذاكرتها ورسالتها الحضارية للعالم قاطبة وهو بهذا المعنى يدخل بامتياز ضمن رموز ما يعرف بالقوة الناعمة. ويستهدف المجمع حسب قرار انشائه نشر العلم والمعرفة والعمل على التقدم العلمى لمصر فيما يصدر مجلة سنوية وبعض المطبوعات المحكمة ويضم شعب الآداب والفنون الجميلة والأثار والفلسفة والسياسة والفيزياء والرياضيات والطب والزراعة والأحياء. وعقب الحريق الذى حدث فى نهاية عام 2011 رأى خبراء ان الكارثة الحقيقية تكمن فى احراق الكتب والوثائق التاريخية النادرة معتبرين ان مبنى المجمع العلمى ذاته الذى سجل منذ عام 1987 كأثر اسلامى قد يمكن ترميمه. وكان الدكتور هانى الناظر عضو المجمع العلمى قد ذكر حينئذ :"ابكى دمعا والما على ما حدث لهذا المكان رمز العلم فى مصر" معتبرا ان من احرقه "يريد ان يوصل للعالم رسالة بأن العلم ليس له مكانة فى مصر". واعرب الناظر عن عميق حزنه لحرق احد اعرق واقدم الأماكن التاريخية فى مصر وهو المجمع العلمى الذى اشعلت زجاجات المولوتوف مبناه لتحرق معه قلوب كل من يقدر قيمة العلم والحضارة فى مصر. واوضح هانى الناظر ان هذا المجمع الذى اسسه القائد الفرنسى نابليون بونابرت عام 1798 يحوىكنوزا علمية قد لاتحتويها مكتبة الاسكندرية ومن بينها النسخة الأصلية لكتاب وصف مصر الذى اعده لفيف من علماء الحملة الفرنسية. وكتاب "وصف مصر" ينقسم الى 20 مجلدا تحوى كافة البحوث والدراسات التى اجراها علماء الحملة الفرنسية ويوصف بأنه من اكبر واشمل الموسوعات الخاصة بمصر فيما يحفل بالصور واللوحات والأطالس والخرائط. وكان الباحث والمترجم المصرى الراحل زهير الشايب قد افنى زهرة شبابه فى ترجمة كتاب "وصف مصر" كعمل رائد يتوجب ان يكون متاحا باللغة العربية لكل المصريين والعرب فيما تؤكد مقدمة الكتاب على نظرة العلماء الفرنسيين لمصر كمهد الحضارة والفنون الانسانية . كما يضم المجمع بين جنباته " اطلس مصر الدنيا والعليا" الذى كتب عام 1752 واطلس فنون الهند القديمة واطلس المانى عن مصر والحبشة يرجع تاريخ كتابته لعام 1842 و"اطلس ليسوس" الذى يوصف بأنه ليس له نظير فى العالم وكان من مقتنيات الأمير محمد على وهو من افراد عائلة محمد على الكبير . وتحمل صفحات التاريخ اشارات لزيارة قام بها المؤرخ المصرى الشهير عبد الرحمن الجبرتى لامجمع العلمى ابان حملة نابليون بونابرت ووصفه للكتب والأطالس التى يحويها المجمع معتبرا انها تستهدف اقناع الشعب المصرى باهتمام نابليون بالثقافة الاسلامية ورغبته فى خدمتها.