فى مقالى السابق تحت عنوان "دستور الدساتير"، الذى نُشر سابقًا فى هذه الجريدة الغراء، استعرضنا كيف أن القرآن الكريم وضَّح المعالم ووصف الأجواء المشابهة للفترة الصعبة التى تمر بها أمتنا فى هذه المرحلة من تدافع وصراع بين قوى الحق والقوى التى تناهضه بقصد أو دون قصد للحيلولة دون ظهور هذا الحق واضحا وجليا أمام الناس. وفى هذا المقال نستعرض وسيلة من وسائل هذه القوى المناهضة، وهى وسيلة الإعلام وكيفية استخدامه لتضليل الأمة وتزييف وعيها، صدودا عن هذا الحق الذى يخشون بزوغه إما لأطماع شخصية، وإما للحفاظ على مكتسبات غير شرعية أو لأحقاد وأهواء تعن فى النفوس. وقد وصف لنا القرآن الكريم أحد المشاهد لاستخدام الإعلام وسيلة للتضليل وتغييب وعى الأمة، حين أرسل فرعون آلته الإعلامية الضخمة، لكى يشوه صورة سيدنا موسى عليه السلام فى سائر أنحاء البلاد (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) (الشعراء 53-56). وقد قامت بطانة السوء قبلها برسم صورة ذهنية سيئة عن سيدنا موسى وعمن آمنوا به لدى فرعون ولدى الأمة قائلين: (وقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)، فتفعل هذه الشحنة المعنوية فعلتها فى الفرعون فيرد بحسم (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف: 127). وقد استخدمت هذه الآلة الرهيبة شر استخدام فى أثناء الحرب العالمية الثانية، فكان النازى يرسل طائراته لإلقاء المنشورات التى تهز معنويات الأمم قبل أن يقوم بغزوها، وكان أوضح مثال لذلك فرنسا التى انهارت معنوياتها وأسلمت نفسها للنازى دون مقاومة، كما استخدم الزعيم "الخالد" آلته الإعلامية الضخمة لصنع زعامة فُرِضَتْ على وعى الأمة المصرية والعربية؛ حيث أنفق ما يقرب من 180 مليون جنيه – كما ذكر الكاتب الكبير فهمى الشناوى– للدعاية والترويج لنفسه ولنظامه وللدعوة التى تبناها وهى القومية العربية، وكان هذا رقما ضخما بمقاييس ذلك الزمان، كما استخدم آلته الإعلامية فى تشويه المعارضين له، فادعت أن الإخوان المسلمين حاولوا قتل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ –معشوقى الجماهير فى هذا الوقت– واستخدم تليفزيون الدولة لنزع اعترافات من بعض الإخوان وعرضها على المشاهدين، وكان يشرف على ذلك أحد الإعلاميين الذين يتصدرون المشهد الثورى حاليا، وإحقاقا للحق، فقد اعتذر الرجل عن هذه الفعلة الشائنة هذه، بالإضافة إلى استخدام الزعيم الأوحد مصطلحات نادرة مثل "أعداء الثورة" و"أعداء الاشتراكية" لكل من يناهض أو يعارض حكمه، وقد تغنى بتلك المصطلحات العندليب الأسمر فى هذا الزمن البائد الذى انتهى بنا إلى أكبر انتكاسة فى حياة الأمة، وهى هزيمة الخامس من يونيو 1967 التى سماها إعلامه بالنكسة، تخفيفا لمصطلح الهزيمة، وهذه أيضا إحدى الوسائل الخبيثة لتزييف الوعى، ولم يتورع هذا الإعلام المضلل أن يحول إحدى هزائم الزعيم إلى نصر يتم الاحتفال به سنويا، تلكم الهزيمة التى أسفرت عن احتلال سيناء بالكامل وتدمير مدن القناة الثلاث وفتح معبر قناة السويس بمرور سفن إسرائيل رافعة أعلام دولة أخرى، وكانت المحصلة النهائية احتلال ميناء أم الرشراش الذى سمته إسرائيل بميناء إيلات، الذى أدى إلى استخدام دولة الكيان الصهيونى للبحر الأحمر؛ مما أدى إلى انفتاحها على إفريقيا ودول جنوب أسيا. والآن يتم استخدم الإعلام المملوك لبعض رجال الأعمال الذين كونوا ثروات هائلة بطرق مشروعة وغير مشروعة نتيجة للفساد الذى مارسه النظام السابق لنفس الغرض الخبيث ألا وهو تزييف وعى الأمة، وطمس الحقائق؛ ظانين أنهم قد يوقفون عجلة الزمان مرة أخرى فتراهم يزيفون الحقائق ويصنعون الأكاذيب ويستضيفون على برامجهم كل ناعق أو مأجور من سلالة عبد الله ابن أبى بن سلول، ولكن هيهات أن يوقفوا بزوغ شمس الفجر الجديد الذى بدت ملامحه فى الأفق (يرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ) (التوبة: 32). ---------------------- أ. د. مصطفى هيكل مدير عام مستشفيات جامعة بنها