كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم-مثلا أعلى فى سُمو الخلق وسماحة النفس مع أتباعه وخصومه على السواء، ويكفى الواحد منهم أن يلقاه ولو لحظات حتى يأسر قلبه بكريم طباعه وحسن أخلاقه، ولقد وسع الناس بسعة خلقه فصار لهم أبا، وصاروا عنده فى الحق سواء، كان دائم البِشر، سهل الخلق، لين الجانب، من رآه هابَه، ومن خالطه أحبه. ولا عجب فى هذا، فالذى تولى تربيته ربه ليكون معجزة لكل البشر (أدبنى ربى فأحسن تأديبى)، (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). إن مقابلة المشاكل والقضاء على الخصومات بالأسلوب الودى تؤثر فى الخصوم تأثيرا ضخما عجيبا، وهذه الطاقة والقدرة على الصبر يتفرد بها العظماء والأفذاذ من الرجال، وصدق الله العظيم: {ومَا يُلَقَّاهَا إلا الَّذِينَ صَبَرُوا ومَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]. ومن هذه الصور ما يلى: - لقد ظهرت هذه الأخلاق عمليًّا فى حياة الداعية الأول -صلى الله عليه وسلم- جاءته بعض القلائد من الذهب والفضة، فجعل يقسمها بين أصحابه، فقام رجل من أهل البادية، وقال: يا محمد، والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل، فقال: (ويحك فمن يعدل عليك بعدى). فلما ولّى قال: (ردوه على رويدا). - وكان -صلى الله عليه وسلم- فى حرب مع أعدائه، فرأوا من المسلمين غِرة، فجاء رجل حتى قام على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسيف فقال: مَن يمنعك منى؟ فقال: (الله) فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السيف وقال: (من يمنعك منى؟) فقال: كن خير آخذ؟ قال: (قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله)، فقال: لا، غير أنى لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فجاء أصحابه، فقال: جئتكم من عند خير الناس. ولما وقعت الهزيمة القاضية للمشركين فى غزوة بدر وقتل فيها أشرافهم، وأقبل عمير بن وهب الجمحى حتى جلس إلى صفوان بن أمية عند الكعبة، فقال صفوان : قبح العيش بعد قتلى بدر. فقال عمير بن وهب: أجل والله، ما فى العيش بعدهم خير، ولولا دَيْنٌ علىّ لا أجد له قضاء، وعيال لا أدع لهم شيئا، لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن تمكنت منه، فإنه بلغنى أنه يطوف فى الأسواق. ففرح صفوان بقول عمير، وأحب أن يتأكد من كلامه فقال له: وهل تراك فاعلا؟. قال: نعم ورب هذه البنية. قال صفوان: فعلىّ دينك، وعيالك كعيالى. ثم حمله صفوان على بعيره وجهزه، وأمر بسيف عمير فشحذ وسُمّ، ثم خرج إلى المدينة، فنزل على باب المسجد وعقل راحلته، فرآه عمر بن الخطاب وعليه السيف، ففزع منه، وقال لأصحابه: دونكم الكلب هذا العمير بن وهب الذى حرش بيننا يوم بدر. فقاموا إليه فأخذوه، وانطلق عمر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، هذا عمير بن وهب، قد دخل المسجد وهو الغادر الخبيث، فقال (أدخله علىّ)، فأخذ عمر بحمائل سيفه وأدخله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه قال: (تأخر عنه يا عمر)، فلما دنا عمير، قال: أنعم صباحا. فرد النبى -صلى الله عليه وسلم-: (لقد أكرمنا الله عنا تحيتك، تحيتنا السلام، فما أقدمك يا عمير؟) قال: قدمت فى أسيرى عندكم، قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: (فما بال السيف؟ قبحه الله من سلاح، وهل أغنى من شىء؟) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اصدق الله يا عمير، ما الذى أقدمك؟) فقال: ما قدمت إلا فى أسيرى. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما شرطت لصفوان فى الحجر؟) ففزع عمير، وقال: ماذا شرطت له؟ قال: (تحملت بقتلى على أن يقضى دينك ويعول عيالك، والله حائل بينك وبين ذلك). قال عمير: أشهد أنك رسول الله، وأنك صادق، وأشهد أن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحى، وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بينى وبين صفوان كما قلت لم يطلع عليه غيرى وغيره، وقد أمرته أن يكتمه، فأطلعك الله عليه، فآمنت بالله ورسوله، وشهدت أن ما جئت به حقا، والحمد لله الذى ساقنى هذا المساق. قال عمر بن الخطاب: لخنزير كان أحب إلىّ حين طلع، وهو الساعة أحب إلى من بعض أولادى. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (علموا أخاكم القرآن، وأطلقوا أسيره)، فقال عمير: يا رسول الله، إنى كنت جاهدا على إطفاء نور الله، فله الحمد أن هدانى، فائذن لى، فألحق قريشا، فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، فلعل الله يهديهم ويستنقذهم من الهَلَكة.. فهل نستفيد فى حياتنا العملية من هذه الأخلاق؟!. من علماء الأزهر الشريف، العضو السابق بمكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين