لقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلا أعلى في التربية وتنشئة الرجال، والإيثار وكيف أنه كان لا ينتصر لنفسه، بل كان يتَعَالى عن مثل هذه التفاهات، ولا هم له إلا انتشال البشرية من الضلال إلى الهدى، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة بأبي هو وأمي. فكثيرة هي المواقف التي أظهرت حسن خلق النبي الكريم ومدى ترفعه عن الانتقام لنفسه وإيثاره الدعوة إلى الله على نفسه، فقد عرضت عليه الدنيا بأكملها، عرضوا عليه المال والملك والجاه والنساء وأن يعالجوه إن كان به مرض إلا أنه صرح بمبدئه ومبتغاه قائلا: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، لن أتركه أبدا حتى يظهر الله أو أهلك دونه" ومن هنا شجعه عمه على المسير في طريق دعوته قائلا: ولقد عملت بأن دين محمدٍ *** من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحا بذاك مبينا والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وأبشر وقر بذاك منك عيونا. بعد بدر.. اشتعلت الأحقاد بعد غزوة بدر والحنق والحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين مشتعل هنا وهناك، الكل يريد التخلص من هذا الدين الجديد، الذي انتصر أصحابه في بدر، وصاروا من وجهة نظر أرباب السلطة والمادية خطرًا على موقعهم وتجارتهم، بعد بدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، وما أصاب المشركين فيها من خزي وذل على أيد الصحب الكرام الذي قاتلوا ببسالة يوم بدر. وكذلك قلقت القبائل المجاورة لمكة من أصحاب الدين الجديد وخافوا على تجارتهم وسيادتهم فكانوا لا يألون جهدا في المعاونة في إيذاء المسلمين. مؤامرة.. بطلاها عمير وصفوان عمير بن وهب، كان واحدًا من قادة قريش، وبطلاً من أبطالها، كان حادَّ الذكاء، وداهية حرب، أقبل عمير بن وهب على ابن عمه صفوان بن أمية وهو جالس في حجر الكعبة، وأخذا يتحدثان فيما حل بأهل مكة يوم بدر من خزي وعار على أيد فرسان بدر من الصحابة الكرام. فقال صفوان بن أمية: قبح الله العيش بعد قتلى بدر. فقال له عمير: صدقت، والله ما في العيش خير بعدهم، ولولا ديْن عليَّ لا أملك قضاءه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي؛ لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي عنده علة أعتلُّ بها عليه: أقول: قدمت من أجل ابني هذا الأسير، وكان ابنه وهب بن عمر قد أُسِر يوم بدر. ففرح صفوان بن أمية، وقال له: عليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم وأرعاهم. فقال عمير لصفوان: اكتم خبري أيامًا حتى أصل إلى المدينة، ثم جهز عمير سيفه وسنَّه، وجعله حادًّا، ووضع فيه السُّمَّ، ثم انطلق حتى وصل إلى المدينة. وما إن هل عمير على أبواب المدينة حتى رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال هذا الشيطان عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر، وربط عمير راحلته عند باب المسجد، وأخذ سيفه، يريد أن يتوجه إلى رسول الله. فأسرع عمر إلى رسول الله: "وقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب جاء رافعًا سيفه، لا تأمنه على شيء. فقال عليه الصلاة والسلام لعمر: "أدخله عليَّ"!!. فخرج عمر، وأمر بعض الصحابة أن يدخلوا إلى رسول الله "ويحترسوا من عمير، وأمسك عمر بجمالة سيف عمير بن وهب، ودخل به على رسول الله. فقال له: "أرسله يا عمر"!، وقال لعمير: "ادنُ يا عمير"!.. فاقترب عمير من الرسول الكريم وحياه بتحية الجاهلية قائلا: أنعموا صباحًا. فقال له صلى الله عليه وسلم: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية، أهل الجنة". ثم سأله رسول الله: "ما جاء بك يا عمير؟".. فقال عمير: "جئت لهذا الأسير الذي عندكم -يقصد ابنه وهبًا-، تفادونا في أسرانا، فإنكم العشيرة والأهل. فقال النبي: "فما بال السيف في عنقك؟".. قال عمير: "قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئًا؟! –يعني يوم هزيمتهم في بدر-". ثم قال الرسول الكريم: "اصدقني يا عمير، ما الذي جئت له؟".. فقال عمير: "ما جئت إلا في طلب أسيري". فقال الرسول: "بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في حجر الكعبة، ثم قلت: لولا دين عليَّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان ذلك، والله حائل بينك وبين ذلك"، فقال عمير: "أشهد أنك رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي، وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحجر، لم يطلع عليه أحد، فأخبرك الله به، فالحمد لله الذي هداني للإسلام". ففرح المسلمون بإسلام عمير فرحًا شديدًا. فقال الرسول لأصحابه: "علموا أخاكم القرآن، وأطلقوا أسيره" [بتصرف من سيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري]. هكذا أسلم عمير بن وهب، وأصبح واحدًا من أولئك الذين أنعم الله عليهم بالهدى والنور، يقول عنه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما أسلم: والذي نفسي بيده، لخنزير كان أحب إلي من عمير حين طلع علينا (حين رآه في المدينة وهو قادم على الرسول ليقتله)، ولهو اليوم أحب إلي من بعض ولدي. عمير الداعية.. وبعد أيام قليلة، ذهب عمير بن وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يأذن له بالسير في طريق الدعوة إلى الله تعالى فقال: "يا رسول الله، إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وإني أحب أن تأذن لي فألحق بقريش، فأدعوهم إلى الإسلام، لعل الله أن يهديهم"، فأذن له الرسول الكريم بذلك. وفي الوقت الذي آمن فيه عمير بالمدينة، كان صفوان بن أمية يقول لقريش: أبشروا بفتح يأتيكم بعد أيام ينسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يخرج كل صباح إلى مشارق مكة يسأل القوافل القادمة من المدينة: ألم يحدث بالمدينة أمر؟ هل قتل محمد؟ وظل على هذا النحو حتى قال له رجل قدم من المدينة: لقد أسلم عمير. فغضب صفوان أشد الغضب، وحلف ألا يكلم عميرًا أبدًا، ولا يعطي له ولا لأولاده شيئًا. وعاد عمير بن وهب إلى مكة مسلمًا، وراح يدعو كل من يقابله من أهل مكة إلى الإسلام، فأسلم على يديه عدد كبير، ورأى صفوان بن أمية، فأخذ ينادي عليه، فأعرض عنه صفوان، فسار إليه عمير وهو يقول بأعلى صوته: يا صفوان أنت سيد من سادتنا، أرأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر والذبح له؟ أهذا دين؟ اشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. فلم يردَّ عليه بكلمة. عمير ينقذ صفوان من الضلال وفي يوم فتح مكة، لم ينس عمير صاحبه وابن عمه صفوان بن أمية، فراح يدعوه إلى الإسلام، فشد صفوان رحاله نحو جدة، ليذهب منها إلى اليمن، وصمم عمير أن يسترد صفوان من يد الشيطان بأي وسيلة، وذهب إلى الرسول مسرعًا، وقال له: يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه قد خرج هاربًا منك، ليقذف بنفسه في البحر فأمنه (أي أعطه الأمان)، فقال النبي: "قد أمنته"، فقال عمير: يا رسول الله، أعطني آية (علامة) يعرف بها أمانك، فأعطاه الرسول عمامته التي دخل بها مكة. فخرج عمير بها حتى أدرك صفوان وهو يريد أن يركب البحر. فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي، الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان رسول الله قد جئتك به. فقال له صفوان: ويحك، اغرب عني فلا تكلمني، فقال عمير: أي صفوان، فداك أبي وأمي، إن رسول الله أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، عزه عزك، وشرفه شرفك. فقال صفوان: إني أخاف على نفسي، فقال عمير: هو أحلم من ذاك وأكرم. ثم رجع معه وذهبا معا إلى رسول الله، فقال صفوان للنبي: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني. فقال الرسول: "صدق"، فقال صفوان: فاجعلني فيه -أي في الإيمان- بالخيار شهرين. فقال الرسول: "بل لك تسير أربعة أشهر" [بتصرف من سيرة ابن هشام]. وتحققت أمنية عمير وأسلم صفوان بن أمية، وسَعِد عمير بإسلامه، وواصل عمير بن وهب مسيرته في نصرة الإسلام، حتى أصبح من أحب الناس إلى رسول الله، ونال عمير احترام خلفاء الرسول من بعده، وعاش حتى خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم جميعا. هكذا آتت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلها، فليتنا نتعلم من رسولنا الكريم ونؤثر الأخذ بيد البشرية من الظلمات إلى النور على هوانا والانتصار لأنفسنا. وليت الذين تأخذهم العصبية والعنجهية فيتعصبوا لتوجهاتهم أو مذهبهم ليتهم يقتدون برسول الله مصداقا لقول ربنا تبارك وتعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}. المزيد من مقالات جمال عبد الناصر