ليس على وجه الأرض من يعيش متأجج المشاعر مثل (الثائر)، فهو يعيش على فوهة بركان يكاد يصطلى بحُممه، وتوشك مدينته أن تحترق بنيرانه، وهو يواجه ويصر على هزيمة البركان وإعادة السلام لمدينته. وإذا راجعت الثورات الناجحة ستجد أن أمواجا خمسا رئيسة تمر بها (نفوس) الثوار: أولا- صدمة.. فابتهاج... فارتباك: حيث يتلقى (صدمة) الطغاة فيندفع وأمثاله بنقائهم وشجاعتهم إلى الرفض والمواجهة، فيلتئم الثائرون فى جموع دافئة تُشعرهم بالأمان، ومع ظهور الوجه القبيح للطغيان يبتهج الثوار لتصورهم أن الباطل ينكشف والنصر يقترب، لكن النصر يتأخر، ويرون الطغيان يخوض معركته بإصرار وقد أعد خططه بإحكام، فيوقِع الثوار فى خطايا ثورية تكاد تتكرر... لعفوية الثورة، واستعداد الطغاة، فيدرك الثوار أن وحدتهم وامتلاكهم للحق ليس كافيا لمواجهة الطغيان الذى يتسلح بالقوة بديلا عن الحق، ويستجمع الأنصار بديلا عن السماء. يصطدم الفريقان، ويرتبك الثوار من قسوة الخصوم وعدم توقع دمويتهم، ويدركون فجأة معنى (أن تصارع طاغية لإسقاط حكمه)، وتأتى الصدمة للباطل أيضا فهو يعاين فجأة معنى (أن تحاول قمع عدو راسخ العقيدة)، يخفت ابتهاج الثوار، ويبدأ إدراكهم بطول المعركة. حينئذ ينتقلون إلى الموجة الثانية. ثانيا- مرارة وخوف: حيث يتوحش الطغيان ويقذف بكل أسلحته، يُسيل الدماء ويهتك الأعراض ويفتك بالجموع، فينقل أهل الحق إلى واقع طالما قرأوا عنه فى معارك الأمم الغابرة وفى قصص الأنبياء، لكنهم يعيشونه واقعا يحول الأصدقاء إلى أشلاء فيرحلون فى لحظات أمام أعين مقروحة، ويصاب الأشداء فيعيشون عجزة بعد أن كانوا يتفجرون بالحيوية، ومع الرصاص والدماء والمصادرة والمطاردة يتولد خوفٌ مشروع، فنطرده حينا، ويدهمنا حينا، الدماء والدمار ليسا مسألة هينة، ومواجهتهما كل يوم ليس هزلا، فتتردد المشاعر بين عهود القصاص للشهداء، وبين الحفاظ المشروع على النفس، وتدخل الحسابات، فإذا دخلت أطاحت باليقين، فإذا ظهرت العقيدة اختفت الحسابات، وأصبح الارتكان على القوى العزيز هو أفضل الحلول العقلية والقلبية، ومع هدأة النفس، يشعر الثائر بمسئولية أكبر من القصاص للشهداء، وأكبر من حفظ نفسه، إنه يناضل من أجل وطن وشريعة ومستقبل، فينتفض ويتقدم الصفوف، فتزداد الجراح وتشتد المقاومة، فيزداد التوحش، فيغلبه الألم، ولكنه يتقدم رغم آلامه، وخصمه لا يرحم آلاما ولا جراحا … فيتسلل الشوك إلى الحلوق، وتتجمد الدموع بالعيون، وتتساءل النفوس: هل سنهزم؟ حينئذ ينتقلون إلى الموجة الثالثة. ثالثا- توجس ومراجعة: تأتى أوقات يشعر فيها الثوار أن ثورتهم قد تضيع بسبب قوة الخصم وامتلاكه أسباب البقاء والانتصار، وينغمسون فى القياسات المادية فيجدونها لصالح الطغاة، ويلتفت الثائر بعيدا عن الجموع الثائرة، فيجد شعبا مُغيبا مخدوعا، لا يفيق أحدهم إلا بقتل ولده أو انتهاك عرضه، ويتخذ العبودية دينا، ويتصالح مع إهدار كرامته، بل ويجد لها موروثا من المنطق، (إحنا فين وهمه فين)، (إحنا غلابة)، (لو دخلت بلد بتعبد العجل حش وادِّيله)، فإذا نظر الثائر خارج حدود وطنه سيجد حكومات ترسخ أقدام الطغاة، وأعداؤه عرب وصهاينة وأمريكان، يمتلكون ما يهدمون به ثورات وثورات، فيأتيه الهاجس: وأين أنا.. وأين نحن من كل هذه التحديات؟.. يراجع نفسه وهو يلقى بالحجارة على بلطجية النظام، ذراعه تعمل ضدهم، وعقله يتساءل: هل كنا على خطأ؟ هل استدرجونا لفخ؟ هل هذا شعب يستحق أن نضحى له؟ أين الناس من قتلانا ومعتقلينا؟ ثم يعود إلى نفسه فيقول: كيف أطلب حماية من شعب قمت بثورتى لأحميه من الطغاة؟ قدمنا نفوسنا ونحن نعلم أنهم مغيبون ومخدوعون فلماذا نطالبهم بما لم يتأهلوا له طيلة حياتهم؟ ثم لماذا أنظر إلى قوة الأعداء ولا أنظر إلى نجاح كل الثورات التى قامت رغما عن القوى العظمى وأسلحة الطغاة وتوحش العسكر؟ مراجعات تتردد طيلة الوقت، يقظة ومناما، لحظة استنشاق الغاز، ولحظة حمل الجرحى،ولحظة الصلاة ولحظة الضحك.. أو الحزن. حينئذ تظهر الإبداعات، ويظهر العمليون الذين (يراجعون) الحسابات أثناء المعركة، ويطورون المعركة أثناء الالتحام، فتتماسك بهم الصفوف كما تماسكت من قبل بدماء الشهداء وبصفاء العقيدة، وتحافظ على الصف الثورى، وتنزل الهزائم بالطغاة. لكن ضربات الطغاة تتوالى بلا حساب، تدافع عن وجودها. وحينئذ تنقسم القلوب بين مستجيب يشعر بالنصر، ومستريب يتذوق الهزيمة. فتكون الموجة الرابعة. رابعا- نصر قريب أم هزيمة ساحقة: هذه مرحلة متقدمة عن مرحلة التوجس والارتباك فهى مرحلة يلوح فيها الشئ ونقيضه، سترى عدوك منهارا بسبب صمودك وستراه متماسكا لسيطرته على المؤسسات. سيرى الطاغية أن الزمن لم ينل من صمود الثوار، لكن الزمن يظل تحديا يرهق الثوار. سيشعر الثوار بأدلة قاطعة أن عدوهم مرتبك ومنهزم، سيرون ذلك فى قراراته وفى إعلامه، وفى شرطته، ولكنهم سيجدون الأيادى تمتد إليه لتثبيته، فيشعرون أن أمارات انتصار الثورة واضحة، وأن احتمالات انتصار الطغاة محتملة. سيسمع الثوار أخبارا بقلوب متلهفة، وستلهج ألسنتهم بالدعاء أن تكون أخبار هلاك "الفريق" صحيحة، أو انفجار العصابة من الداخل حقيقة، لا بأس، سيقول بعضهم هذه أعمال مخابرات، وآخر يقول بل هذه حقائق، وثالث يرجع الأمر إلى الله، ورابع وخامس … مرحلة شديدة، النصر يلوح للثوار ويلوح أيضا للطغاة. سيرى الثوار أيضا أصدقاء الأمس وقد هبطت عليهم الحكمة! وبينما هم منغمسون بين تظاهرة أو جنازة أو تهجد أو زيارة معتقل، سيسمعون: (قلنا لكم وماسمعتوش الكلام)، (تركتم الحل الثورى واخترتم المسار السياسي.. اشربوا)، (حذرناكم من العسكر ولم تنتصحوا)، و(غباؤكم أوصلكم لسيناريو 54 تانى). وعلى النقيض... سيسمعون أيضا (يا ليتنى كنت معهم) (هم رجال المواجهة ولسنا فى سيناريو 54 بل فى معركة تحرر)، و(نعم مختلف معهم ولكنهم على الحق). الغث يتكلم والثمين. فالناقد وهو يمد يديه مع الثوار (مخلص) فاحتضنوه. والناقد القاعد وهو يتشفّى فى الثوار (ناقم) فدعوه يحترق. والناقد متفلسفا على الثوار (متبلد) فأهملوه لسفاهته. سيسمع ويرى ويحس الثوار بالنصر قريبا جدا... وبعيدا للغاية!! ثم ينتقلون إلى الموجة الخامسة. خامسا- يقين وعمل: وهى مرحلة النضج: ففى هذه المرحلة يكون الثوار قد هزموا تحدى الزمن، وقهروا آلام التنكيل، وتعهدوا بالقصاص، ورأوا ضعف الباطل رغم زهوته، وأحسوا بقوة الحق رغم جراحه، وعلموا كيف يخطط الباطل، وكيف يمكر، وإلام يهدف، فيبادلونه تخطيطا بتخطيط ومكرا بمكر، وترتقى نفوسهم وتتجلد، فلا يهمهم إعلام الضلال، ويقبلون تحدى إعادة الوعى للملايين، ويشفقون على الناس بدلا من النقمة عليهم، وينتقلون إلى آفاق من المقاومة كانت خيالا لا يتصورون ارتياده، ويرتقون من مرحلة الأيدى الناعمة، إلى الأذرع الصلبة، والقلوب الراسخة والإرادة المستعلية، لا يهمهم تساقط الرموز، ولا سخرية الأصدقاء، ولا قلة الموارد، ولا تهديد الحياة والأبناء. مرحلة تؤثر فى الأحداث ولا تتأثر بها، يتقدم الثوار مهما كان قرار الطغاة مرعبا ومهددا. كل أفعال الثورة تكون فعلا إراديا ويحولون الطغاة إلى ردود الأفعال الاضطرارية. تتساقط أمامهم زمجرة الدبابات فتصبح كنباح الكلاب أو مواء القطط. تنهار أمامهم جبابرة الشرطة ويعدون كالنساء يطلبون الغوث من قياداتهم. هذه مرحلة لا تبالى بمكاسب الطغاة السياسية، ولا سعيهم لاختلاق شرعية تحميهم. هنا..يُقدم الثوار بثبات على تدمير قواعد اللعبة وإعادة الأمر فيها لصاحب الأمر … للشعب. خافوا على الثورة فهى أعز ما نملك. لكن لا تخافوا من مشاعركم المتناقضة ولا عواطفكم المضطربة مادمتم فى الصفوف. سنقلق ونخاف ونتوجس ونتمنى ونضحك ونحزن ونسعد ونتألم ونتقدم ونتقهقر ونُجرح وقد نستشهد. لكننا أبدا لن ننهزم. مكملين لا رجوع.