يقولون إن نظام الحكم فى الإسلام ديكتاتورى بطبعه؛ لأن الدولة فيه تملك سلطة واسعة، ويزيد الأمر سوءًا أنها تملكها باسم الدين، باسم شىء مقدس له على نفوس الناس سلطان. فما أسهل ما يغرى هذا السلطان بالدكتاتورية، وما أسهل ما تستنيم لها الدهماء. وبهذا تختنق حرية الرأى، ويصبح الخارج على الحاكم عرضة للاتهام بالخروج على الدين. فمن أين جاءوا بهذا القول الغريب عن الدين؟ أمن قول الله عزَّ وجلَّ (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)؟ (سورة الشورى 38)، وقوله (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)؟ (سورة النساء 58). أم من قول عمر: "فإن وجدتم فى اعوجاجًا فقوموه" فيقول رجل من المسلمين: "والله لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد السيف" فيغبط عمر ويرضى ويحمد الله على ذلك؟!. نعم وجد الطغيان باسم الدين فى التاريخ، ويمكن أن يقوم فى أى وقت. ولكن من ذا الذى يقول إن الدين وحده هو ستار الطغيان فى الأرض؟ وهتلر؟ هل كان يطغى باسم الدين؟ وستالين؟ لقد اعترفت الصحافة الروسية ذاتها بدكتاتورية ستالين -بعد موته- وقالت إنه كان يحكم روسيا حكمًا بوليسيًا فظًا لا يجوز أن يتكرر! وفرانكو؟ ومالان فى جنوب إفريقيا؟ وشان كاى شك فى الصين الوطنية؟ وماو تسى تونج فى الصين الشيوعية؟ كل هؤلاء يطغون باسم الدين؟! لقد رأينا فى القرون الغابرة "المتحررة" من سلطان الدين أبشع دكتاتوريات التاريخ، بعنوانات أخرى لامعة لا تقل قداسة فى نفوس أتباعها عن قداسة الدين فى نفوس المؤمنين. وما يدافع أحد عن الدكتاتورية، وما يرضاها إنسان حر الفكر والضمير. ولكن استقامة الطبع والفكر تقتضى الإقرار بالحق الخالص دون ميل مع الهوى والشهوات. والحق أن كل معنى جميل يمكن استغلاله والتستر وراءه لقضاء المآرب الشخصية وقد ارتكبت باسم الحرية أفظع الجرائم فى الثورة الفرنسية. فهل نلغى الحرية؟ وباسم الدستور سجن الأبرياء وعذبوا وقتلوا، فهل نلغى الدساتير؟ وباسم الدين قام الطغيان حقًا فى الأرض فهل يبرر ذلك أن نلغى الدين؟ كان هذا يكون مطلبًا معقولًا لو أن الدين فى ذاته، بتعاليمه ونظمه يؤدى إلى الظلم والطغيان. فهل يصدق ذلك على الإسلام الذى ضرب من أمثلة العدل المطلق -لا بين المسلمين وحدهم، بل بين المسلمين وأعدائهم من المحاربين- ما أقر به حتى أولئك الأعداء فى أكثر من حادث وأكثر من فترة على مدار التاريخ؟ إنما علاج الطغيان أن ننشئ شعبًا مؤمنًا بقدر الحرية التى ينادى بها الدين ويحرص عليها، فيصد الحاكم عن الظلم، ويقف به عند حده المرسوم. ولست أحسب أن نظامًا يهدف إلى ذلك مثل النظام الذى جعل من واجب الشعب تقويم الحاكم الظالم. فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره.. (متفق عليه) ويقول: "إن من أعظم الجهاد عند الله كلمة حق عند إمام جائر (رواه أبو داود والترمذى). طريقكم إذن للتحرر أيها التقدميون ليس إلغاء الدين. وإنما هو تعليم الناس هذه الروح الثائرة التى تنفر من الظلم وتقوم الظالمين. وإنها فى صميمها لروح هذا الدين. _____________________ أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة