إن بينهما عوامل مشتركة وهما يلتقيان فى السماء فى الموسم المفاجئ لرحيل العظماء، لقد كان الأستاذ هيكل واحداً من أبرز الكتاب فى تاريخ الصحافة العالمية وحظى باحترام دولى واهتمام عربى لم ينله غيره، وقد عايش عصور الملك فاروق ومحمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات وحسنى مبارك والمشير طنطاوى ومحمد مرسى وعدلى منصور وعبدالفتاح السيسى، والتقى بهؤلاء جميعاً، وكان واحداً من أبرز المحللين السياسيين فى التاريخ كله، وتمتع بحجم معلومات أتاحته له فرصة عمله بالقرب من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وشاركه فى معظم القرارات الكبرى حتى احتشد له أرشيف للمعلومات لا يبدو متاحاً لأجهزة الدولة، وكان له أسلوب خاص للكتابة انفرد به، حيث يستطيع القارئ أن يميز أن هذا هو أسلوب «هيكل» حتى لو لم ير اسمه، ولا عجب فهو كاتب مواثيق العصر الناصرى كله، بداية من فلسفة الثورة مروراً بالميثاق الوطنى وصولاً لبيان 30 مارس، وقد وصلت شعبيته لرجل الشارع العادى، وعندما كان يكتب مقاله الأسبوعى «بصراحة» فى «الأهرام» كان الجميع يعتبرونه هو المنبر الديمقراطى الحر فى البلاد، واصطدم بالرئيس السادات رغم أنه هو مخطط حركة 15 مايو، ولقد كان بارعاً فى تبرير أخطاء العصر الذى أنتمى إليه أساساً وهو العصر الناصرى، كما أن له كتابات مشهورة منها مقاله بعنوان «إنى أعترض» أثناء مباحثات الوحدة بين مصر وسوريا والعراق، ومقاله بعنوان «تحية للرجال» التى وجهها للقوات المسلحة بعد نكسة يونيو 67 التى تركت مناخاً للإحباط لدى الكثيرين، وهو الذى كتب نعى الرئيس عبدالناصر فى البيان الذى ألقاه خليفته أنور السادات، وقد شغل موقع منصب وزير الإرشاد أى الإعلام لفترة قصيرة بعدما ضغط عليه «عبدالناصر» لقبول المنصب، وقد استقال فور رحيله، وكان معروفاً برفضه لكل محاولات تكريمه أو منحه أوسمة أو قلائد لأنه كان يرى فى نفسه أنه خارج المنافسة، وقد صنع ل«الأهرام» اسماً مدوياً من منتصف الخمسينات إلى منتصف السبعينات من القرن الماضى، وبرحيل «عبدالناصر» لم تنطفئ شموع «هيكل» فأصدر كتبه التى حققت مبيعات هائلة فى أنحاء العالم، وقد طلب الانصراف عند بلوغه الثمانين، ولكن حضوره كان أقوى بعد الاستئذان فى الانصراف، وظل نجم التحليل السياسى فى الإعلام المقروء والمسموع والمرئى، واحتفظ بذاكرة ذهبية حتى قبيل رحيله بأيام قليلة، قد كان عصراً كاملاً طوى أوراقه بعد معارك سياسية وإعلامية مع كتاب ونظم ودول بالكامل. وقد كان صدامه الأكبر مع «السادات» الذى أحاله إلى المدعى الاشتراكى واعتقل فى أحداث سبتمبر 1981 وعاد إلى الضوء فى عصر مبارك، ولكن مع صلة محدودة بنظام الحكم فى تلك الفترة. وقد حاول فى سنوات عمره الأخيرة أن ينشئ مؤسسة لتدريب الصحفيين الشباب وكان هذا الأمر يحسب له دائماً. أما الدكتور بطرس غالى، فهو شخصية استثنائية بجميع المعايير، فهو ابن عائلة قبطية عريقة، وجده هو رئيس الوزراء الذى جرى اغتياله بواسطة إبراهيم ناصف الوردانى عام 1910 ولقد ظلت لهذه العائلة رموز فى الحكم بدءاً من الجد بطرس باشا مروراً بابنه واصف وصولاً لبعض الوزارات الفرعية إلى أن جاء بطرس غالى وهو فى الخامسة والخمسين ليتولى وزارة الدولة للشئون الخارجية فى أعقاب استقالة إسماعيل فهمى بسبب زيارة السادات للقدس، وبطرس غالى هو الذى أحدث ثورة حقيقية فى الدبلوماسية المصرية، فأصدر الكتب المفتوحة لجمع شتات أرشيف الوزارة، وكان هو أيضاً الذى أصدر مجلتى «الأهرام الاقتصادى» و«السياسة الدولية» من مؤسسة الأهرام فى عهد «هيكل»، ورشحته مصر لمنصب أمين عام الأممالمتحدة وهو فى عامه التاسع والستين واستطاع بدعم فرنسى ودول العالم الثالث أن يحوز المنصب ولكنه رفض أن يكون أداة فى يد السياسة الأمريكية ووزير خارجيتها حين ذلك، مادلين أولبرايت، فلم يتم التجديد له فى موقعه لأنه نشر التقرير الدولى عن مذبحة قانا ضد الفلسطينيين، لقد كان وطنياً مصرياً حتى النخاع.. دافع عن بلاده فى كل المحافل وكل الأوقات. وتعايش مع العصر الناصرى بدون صدام، حيث تفرغ وقتها للعمل الأكاديمى وكان أستاذاً لأجيال متتالية فى مصر والعالم العربى وأفريقيا، بل ودول أوروبية أهمها فرنسا وبلجيكا وهولندا، وترك بصمة كبيرة على الساحة الدولية والإقليمية والمصرية. وكان من دعاة السلام مع إسرائيل، المشروط باستعادة الحقوق الفلسطينية، وكان يتحدث اللغات الثلاث بطلاقة العربية والإنجليزية والفرنسية. وكان رأيه فى أزمة سد النهضة أنه لا بد من حوار سياسى تتقدم فيه مصر ببعض العروض المغرية لتنمية إثيوبيا وغيرها من دول حوض النهر بمنطق التعاون وليس العداء.. وقد ارتبط دائماً بأهمية القارة الأفريقية لمصر وتولى رئاسة الفرانكوفونية بعد الأممالمتحدة، ثم رئاسة المجلس القومى لحقوق الإنسان فى مصر وبرحيله أغلق ملف كبير ارتبط بشخصية عالمية تولت أكبر منصب دولى فى تاريخ الإنسانية. ويقترن رحيله مع «هيكل» لكى نودع الكبار فى وقت واحد. وقد كان آخر لقاء لى مع بطرس غالى على العشاء فى منزله منذ أسابيع قليلة ومنذ أيام فقط اتصلت بى السيدة «ليا» لكى تقول إنه يريد أن أحضر إليه فى عشاء آخر مع مجموعة من الأصدقاء، ولكن تدهور صحته بعد سقوطه فى حمام منزله قد أدى إلى رحيله. وقد كان آخر اتصال مع الأستاذ هيكل يوم عيد ميلادى 14 نوفمبر للتهنئة وهو نفس يوم عيد ميلاد بطرس غالى أيضاً. رحم الله الجميع.